حياة مؤطرة تجاهلت تجارب العالم بمعزول عن نظريات العلم الانساني وفق ثقافة متصلبة فرضت بالقوة و انتهجت سياسة النظرة الأحادية الضيقة، التي طالت كل مفاصل الحياة المعنوية و المادية. إنه الواقع الأكثر توافقا و انسجاما مع السياسات الدكتاتورية القمعية.
و عندما تسقط هذه الأنظمة في مستنقعات الفشل تجرف معها اوصال الدولة التي أصابها الوهن الثقافي الحضاري المفتعل. لكي تستعيد هذه النماذج عافيتها وجدتها يوضع مصطلح الاعمار على رأس قائمة المستجدات و المقصود هو (الاعمار العمراني) على الأكثر، و لم يتم التطرق الى موضوع أساسي يستند اليه كل الأبنية الاقتصادية الا وهو (الاعمار الثقافي)، لان النجاح الاقتصادي لاي مجتمع يرتهن (بنجاح الثقافة) حتى ذهبت فلسفة الارتقاء الحاضرة الى تأكيد الدور الأساسي للثقافة في نهوض المجتمعات، ولن يتقرر عن طريق التشريعات او الروح العسكرية و العمل السياسي، الايدولوجيا او الحماس اللفظي. لو ننظر للثقافة من بعد اخر، نرى ان الثقافة و المثقف كلمتان متلازمتان شائعتان شيوع الهواء و الذي يبقى الانسان على قيد الحياة. و هناك علاقة كيميائية جدلية بينهما، فالثقافة نتاج جهد المثقف، عندما يصنع فكرة من جملة مكونات محيطه و بيئته، نشاطه العقلي و الفيزيائي من اجل البقاء على خطين متوازيين على ما تسمح بها الطبيعة الكونية، خط البقاء البيولوجي النابض بالحياة، و خط التفاعل الاجتماعي الإنساني على مسار التطور و الارتقاء منذ بداياته من طور أدنى الى طور اعلى، بفضل (التفاعل البايولوجي) من جهة و بفعل التكيف مع مقتضيات الطور الجديد.
وإذا كانت المجتمعات تتطور (بالفكر العلمي) الذي لا يقف و لا يدفع به الى الامام الا (الثقافة)، لأنها يمكن ان تسد المنافذ أمام (الفكر العلمي) كما يمكن ان توفر له ظروف التطبيق. و مثلما تكون (الثقافة) مفتاح للارتقاء ممكن ان تكون قفلا بدون مفاتيح. على سبيل المثال: لما كانت المقالات (الفكر العلمي) بما فيها نظريات العلم، قواعده، قوانينه، متاحة لكل مجتمعات العالم، فان الثقافات المختلفة لها طرائقها المتباينة في التعامل مع تلك الأبنية و هي التي تحددها بدليل ان الشعب الخلاق هو الشعب الذي اكتسب ثقافة مرنة، و واقعية و امكنة الاستعانة بمنهج في التعامل مع الافراد الجماعات الأفكار و القيم. على اختلاف الشعب العاجز وليد ثقافة متخلفة صلبة عنيدة يجتر اوهامه فتتركه قوافل الارتقاء على قارعة الطريق.
نزع روح الثقافة
مثلا دول تبلورت أوائل خمسينيات القرن الماضي بثقافة جديدة في قيمتها و افكارها و بتعبيرها عن ذاتها عبر الفنون و الآداب، حتى أواخر الستينيات حينها تم تضييق عليها و اقحام عناصر دخيلة بحيث تم انتزاع جوهرها و روحها المتجددة و أخرجت عن منهجها. و التي آلت بقيمها الى الانحراف و التصارع، و لعدة عقود ظلت تدير ظهرها لعناصر الفكر الجديد. بسبب اقحام عناصر تقليدية، متعصبة، منغلقة تحت تبريرات شتى للخروج بثقافة أخرى بديلة. و قد تجاهل البديل ان الثقافة لا تتشكل بمعزل عن الاخر لأنها وليد تفاعل متغيرات الثقافة في ذلك المجتمع كله. و لا تستوعب عنصرها بالقوة فأنها قد تختزنها لحين تسنح الفرصة فتلتقي بها جانبا.
أي اعمار الثقافة يعني بناء مكونات فكرية و عملية يتنظم خلالها سلوك المجتمع، و جوهر ذلك السلوك يحمل الرفعة على الصعيد الادب و الفن و صيغ، التعبير، أساليب التصرف، التفكير و مجمل الفعاليات. لذا تستلزم استلهام مقومات الحياة الجديدة على الصعيد الاجتماعي بما يحقق الانتظام، الديناميكية، التجدد و التفاعل المجتمعين (دون الاخلال بحريات الناس). و تسبغ الفعالية على روح الثقافة عبر تنشيط القيم و الأساليب لأحداثها التأثير و الفعالية الثقافية بتناول ذكي و ربط علاقات كل مكون ثقافي مع توفير الفرص للمجتمع للأداء الاجتماعي الى جانب اسهام الاعلام ليعزز دور المجتمع في الأداء الثقافي. و من هنا فان نشر اتجاهات الثقافة لا يقتصر على اصدار: النشرات، الكتب، الجرائد و المجلات، و انتاج الأفلام و المسرح البرامج الاذاعية و توفير المواقع الالكترونية، بل يتعدى الى توفير الفعاليات للمجتمع كي تتسنى له المشاركة الثقافية على نطاق واسع. ولو نأتي الى المجتمعات البشرية و بالأخص الشرقية و العربية سوف نشهد نمطين من التفكير هما:
- نمط تقليدي منغلق على الواقع الراهن متقوقع يجر اذياله الي ارث الماضي تحت ذرائع شتى معلقا بالدين العقيدة و المذهب معتمدا على تفسيراته الذاتية اعتمادا على النصوص الداعمة لمصالحه الذاتية النمط التقليدي الجامد يسطع على مجتمعات بشرية و من ذات المجتمع.
- النمط التقدمي التنويري يفعل فكره في أجواء الحرية من اجل التطور و الارتقاء بالمجتمع نحو الأفضل و هذا النمط الفكري ينسجم و يتماشى مع الطبيعة الفطرية للحياة.
اذن الحرية نبض الثقافة و روحها و آلية منافعها الإنسانية، تبقى اعلى و أرقى ثمرة فكرية في المجتمعات البشرية. و الثقافة تعبد الطريق الى تحقيق طموحاته في التطور و الارتقاء.