بعض الوعاظ يمتلكون امكانيات كبيرة في جذب الناس الى احاديثهم والتأثير على عقولهم اكثر بكثير من تأثير المفكرين والكتاب والمثقفين في كتاباتهم ، هذه دراسة تحليلية لخفايا وراء قوة تأثير الوعاظ ، ولماذا عامة الناس تنجذب إليهم وتتبع أفكارهم رغم ان طرح الوعاظ يكون مزيجاً من الكذب والدجل احياناً ، و ان طريقتهم تضر بالمجتمع بشكل واضح وصريح لكنها تبقى الطريقة الاكثر شيوعاً وانتشاراً لتغذية العقول لطيف واسع من المجتمع .
في البداية يجب ان نعترف بأن المواضيع المطروحة شفهياً إرتجالياً بلغة عامة الناس مصحوبة ببلاغة كلامية وملكة خطابية تكون دائماً اكثر سلاسة ومقبولية للمتلقي ولا يحتاج المتلقي في هذه الحالة الى صعوبة في هضم افكار الواعظ على عكس ما يحدث عندما يقرأ المتلقي افكار الكاتب ويغوص في المفردات وربط الافكار وتحليلها . . . الوعاظ يمتلكون موهبة استخدام المفردات البسيطة والتحكم بايقاع الكلام اضافة الى النبرة الصوتية المؤثرة وغالباً ما يلتجأ الواعظ الى القصص العاطفية الحسية في ايصال افكاره ، وهذه القصص تحمل الأثارة والحماسة والحس الإنساني والعاطفة التي تداعب المشاعر الحزينة لأبناء مجتمعاتنا المغلوب على امرهم ، وهذه المشاعر الحزينة هي العلامة الفارقة للطبيعة الحسية لافراد مجتمعاتنا ، ومثل هذه القصص تبقى في الذاكرة خاصة إذا كانت مرتبطة بالواقع …. الناس بشكل عام تبحث عن التسلية في اي حديث مطروح بسبب متاعب الحياة وصعوبات الظروف التي تحيط بهم مضافة الى هموم البيت والعمل والشارع ، وهذا مالا ينساه الواعظ عند حديثه ، فهو ابن الواقع فيمزج حديثه بكل الاحتياجات النفسية للمتلقي . . . الواعظ يظهر تعاطفاً كبيراً مع معاناة الناس ولا يبتعد عنها ويحاول التخفيف من حمل تلك المعاناة بأساليب محببة الى قلوب الناس . . . ان استخدام الحاسة السمعية في الحصول على المعلومة توفر للمتلقي جهداً كبيراً في فهم واستيعاب الكلام المطروح فالسمع اقرب واسهل من القراءة خاصة لأصحاب الثقافة المحدودة . وبما ان معظم الناس محدودي المعرفة فيكون الاستماع بالنسبة لهم فيه راحة وارتياح ومتعة كبيرة . . . لو نظرنا الى واقع مجتمعنا سوف نلاحظ ان الغالبية العظمى من الناس تتماشى مع ما يطرحه اصحاب المنابر من الوعاظ وهذا ما جعل اصحاب الكتابات المقروءة في عزلة ، ورواد الثقافة هم القلة القليلة في المجتمع . . ان الطريقة التي يتربى بها الطفل داخل العائلة ويكسب من خلالها معلوماته هي الطريقة السمعية وحتى التلميذ في المدرسة فأنه يستمع للمعلم او المدرس لشرح المادة شفهياً تكون اكثر فهماً واستيعاباً له من الكتاب ، وهذا ما يحصل داخل المجتمع وفي المجالس والبيوت واللقاءات مع الاصدقاء والاقارب ، فهي إذاً طريقة متوارثة عند الناس ، ولا تحتاج الى عناء . الواعظ يمتاز عن كل هؤلاء بقدرته على جذب الانتباه بأسلوب خطابي رنان يداعب فيها كل الاحاسيس والمشاعر للمستمعين الصاغية اذانهم وقلوبهم إليه ، ولا ننسى ان الوعاظ الذين يعتلون المنابر بالزي التقليدي الديني لا يمثلون أنفسهم فحسب بل يمثلون المؤسسة الدينية التي يقدسها عامة الناس . هذه الحقائق يجب ان يطلع عليها الجميع ويعرف خفاياه الجميع ليفهم كل منا بأن المجتمع خاضع لثقافة مدروسة وان سلوكيات الناس هي نتاج لتلك الثقافة على مدى مئات السنين وهي الثقافة التي منبعها الاساس الوعاظ … ان اردنا ان ننقد الواقع الاخلاقي والسلوكي والثقافي للناس علينا ان نبدأ من هذه الحلقة التي هي الرافد الاول للتربية الاجتماعية ، لايوجد بيننا من لم يصادف خطبة واعظ في المساجد او الكنائس او جميع دور العبادة او المناسبات الدينية بشكل مباشر او عن طريق التلفزة .
نحن اليوم امام تساؤلات ملحة ، لماذا مجتمعنا بشكل عام يعاني من تخلف سلوكي وانحراف فكري خطير وجاهلية مقيتة ؟ لماذا نحاول ان ننسب تخلفنا الى بعض الظواهر العابرة ونتجاوز الحقيقة بأن هذه هي اصل ثقافتنا ؟
ابحثوا عن الناس الذين هم اكثر تخلفاً ستجدونهم في الوسط الذي هو اكثر تواجداً لهؤلاء الوعاظ واكثر ارتباطاً بهم . هل هذه مصادفة ام حقيقة دامغة ؟
ان معاناتنا لم ولن تنتهي طالما ان سبل المعرفة المثمرة بعيدة عن عقولنا وطالما ان الثقافة الحية في وادي غير وادينا ، وان الوصول الى الثقافة الإنسانية الصحيحة تفصلنا عنها ممانعات وحواجز بالجملة . سيستمر الحال على هذا الحال وتستمر الشكوى ويستمر التساؤل لماذا نعيش خلف الركب الحضاري ؟ لماذا صناعاتنا وزراعتنا وجامعاتنا ورياضتنا وغيرها متخلفة ؟ سنجد جميع الاجابات امامنا من خلال معرفتنا لنوعية الثقافة التي يزودنا بها هؤلاء الوعاظ ، ومازلنا متمسكين بها دون ان نسمح لعقولنا الالتفات لغيرها او ونقدها وتحميلها ما آلت إليه أوضاعنا المؤلمة . . .
ان الطرح الثقافي للوعاظ يرتكز على ثلاثة اساسيات مدمرة لعقلية الإنسان ، ، الاولى : الولاء والحب لمعتقد الواعظ والكره للمعتقدات الاخرى لأن معتقد الواعظ وهو نفسه معتقد عامة الناس وهو دوماً صح ، ومعتقدات الاخرين دوماً خطأ ،، الثانية : الماضي له التقديس والاحترام والماضي هو المثالي والحاضر والمستقبل هو السيء وهو المخيف والمظلم ، وان مفردة اخر الزمان المرعبة المتكررة على ألسنتهم دائماً بالنسبة لهم يقصدون بها الحاضر .. الثالثة : تحميل الاخطاء التي حدثت في الماضي وتحدث في الحاضر على المخالفين لمعتقد الوعاظ ، يعني الاعتراف الذاتي بالخطأ ونقد الذات مستحيلة ولا وجود لها في قواميس الوعاظ …. يدورون في هذه الدائرة المغلقة لمئات السنين دون ان يعرفوا النتائج الخطيرة لطروحاتهم هذه ، لأنهم هم جاهلون بها ايضاً ، فلكم ان تتصوروا حال المجتمع عندما يتربع هؤلاء على عرش المسؤولية في المجتمع مع هذا المستوى من التركيبة العقلية ، كيف سيكون المستقبل لأبناء هذا المجتمع ؟