بقلم: الأديبة والكاتبة المسرحية والناقدة والشاعرة
فوزية بن حورية – تونس
إن القارئ لشعر عصمت شاهين دوسكي يجد نفسه مبحرا في عالم شاعري.. أو قصائده على مر التموجات إن صح التعبير.. فيها إسراف في الوصف حتى طفحت الصور الشعرية فتجلت المشاعر وفاح أريجها فأباحت العواطف الزخات حتى صار الدمع قراحا من اجل وطن افتقده.. أو حبيبة.. طفلا آلمه ضياعه وجوعه وفقره… كلمات صادرة من القلب و نابعة من الإحساس الصادق ومن الكلمة المسروقة…انفرد بأسلوبه الشيق والراقي… حيث إن كل قصيدة من قصائده تحمل موضوعا لا يقل أهمية عن المواضيع التي تطرق لها من قبل في مجمل قصائده… وأشعاره حتى إنها تشد القارئ، بصورها الشعرية الثرية الوصف والحس فتشرد بفكره وخياله وتجعله يحاول سبر أغوار أفكار الشاعر وتمحص كتاباته ونصوصه الشعرية… والصور التي حملتها للقارئ في سطور وكلمات، وجمل، وعبارات… إن عصمت شاهين الشاعر العاطفي والإنساني حد النخاع، الحالم الغاضب، الثائر الصاخب… المحب العاشق، الناشد للحرية والإنعتاق، مع التوق إلى الاستقلالية والانطلاق نحو حياة فاضلة… خيالية ورحبة إستوى فيها الناس في درجاتهم… هذه الحياة المشرقة يجد فيها حبيبته التي شغفته حبا حتى شغلت تقريبا جل أفكاره وحازت حيزا لا باس به من عقله وقريحته وخياله،… وعاطفته،… وأحاسيسه… إن لم تكن قد استحوذت على وجدانه… ومكنونات صدره يريد لها العناق… ولا يريد الانعتاق من حبها… فيأرجحك بمرجحته الفكرية الخصبة وينومك بمغناطيسه الشعري… لقد جمع في شعره الزاخر كل المواضيع والمشاكل الاجتماعية باختلاف أنواعها حتى انه يمكننا أن نسميه لسان الأمة… أو لسان القومية والوطنية،… أو شاعر القضية الإنسانية،… وشاعر العاطفة… فهو يكتب بإسهاب وطلاقة، وسلاسة عن الحب بشغف صادق… قل نظيره في زمن السرقات الشعرية… والرداءة الشعرية الذي نعيشه، حتى انك تخاله ينهل من بحوره ويكرع بلا فتور أو ملل من ينابيعه… وصوره الزاخرة وذلك بأسلوب شيق… وبطريقة آسرة حتى انك تظنه المغرم الصب بالمرأة،… والعاشق المدمن حبا،… وربما تتخيله يعيش حب عنترة العبسي أو كثير عزة… أو ولادة وابن زيدون،… أو محمود درويش في عزه… أو نزار قباني في زمانه… ولعل جل شعراء الغزل تجسموا فيه أو متلبسون به… وربما تخاله ابن حزام المعاصر بحبه الذي يكاد الوجد يقتله… كما أن القارئ يتنسم في كتاباته صدق المشاعر وحرارة الإحساس، ورقة العبارات الملتهبة، وعذوبة التفاني في الحب… إلا إننا نفاجأ بوجود الإنسانية تتجلى طاغية في جل قصائده تقريبا… فشعره يذكرك بالشاعر نزار قباني ومحمود درويش فمثله كمثل أبي القاسم الشابي مهموم بهموم قضية الشعب العراقي المقرون ببؤس الأطفال وهمومهم وماساتهم… كيف لا وهم رجال الغد وعتاد العراق المستقبلي… وكما نجد في كتاباته للمرأة النصيب الأوفر تقريبا فهي جوهر كل موضوع… حيث أن كل محاور قصائده تدور حول المرأة فهو تارة متغزلاً بها في ترف وبذخ وتارة أخرى يلعب دور المخاطب والمستعطف المناجي… فتجده يناجيها مستعطفا مثلا في سقم وأحيانا يلعب دور المعتذر وأحيانا مدافعا حتى انك تستشعر انه لسان الدفاع عنها ، فتخاله شاعر النسيب… وكما يشعر القارئ أن الرجل المتسبب الرئيسي في معاناة المرأة وإيذائها … ثم طالبا الصفح بطريقة غير مباشرة، والمقايضة، وهذا يظهر جليا في قصيدة ” كاس بكاس ” العنوان بحد ذاته يحمل رمزية المقايضة أو طلب التغيير من حال إلى حال أي من وضعية إلى وضعية أخرى مغايرة للأولى… كاستبدال كاس المر الحنظل بكاس الزيت والعسل… وما عنى بذلك غير تغيير الأوضاع أو بالأحرى كسر كاس الاستعمار والفوضى العارمة الخلاقة للدمار الشامل… والتفجيرات، والطائفية في العراق… واستبداله بكاس العز والحرية والأمان والطمأنينة… والحب بين أفراد الشعب العراقي وجمع شملهم… وتوحيد صفوف وحدتهم وجعلهم كفرد واحد… ثم يواصل فيختار شاعرنا عتبة القصيدة بعناية فائقة فيفتتحها بقوله : ” افرغ الكأس واسقيني ” يذكرك بقصيد ابن حمديس « هات كأس الراح أو خذها إليك» هاتِ كَأسَ الراحِ أَو خُذْها إِلَيكْ * يَنْزِلِ اللهوُ بها بين يديْكْ وبإغنية صباح فخري « يا بهجة الروح » التي يقول فيها هاتِ كاسِ الراح واسقني الأقداح وجهك الوضاح ماله من مثال كأني به في قصيدته “كاس وكاس” يأمر حبيبته العراق الكليلة بإفراغ كاس الغضب والسخط،… والنقمة،… وهمجية القتل…وسفك الدماء ودكتاتورية الطائفية الأكثر خطرا من الاستعمار،… ويطلب منها أن تسقيه بدل القهر كاس العز والانتصار ولملمة جروح الوطن وإفشاء التسامح والرضا بين أبناء الوطن الواحد… ونسيان ما مضى من سواد السنين المتفحمة… وسوء الفعال… وما حدث وذلك في قوله ” واسقيني ” ثم وكأنه يطلب السماح والمعذرة وعدم المؤاخذة في قوله : ” أنا العاشق منذ سنين ” يقصد أن حبه لم يكن نزوة بل هو متأصل ومتجذر فيه… ويتمادى في نفس القصيدة فيقول: دع العطر يثير أنفاسا هنا يناشد حبيبته في ذل وإسراف في الاعتذار مع تغزل وغنج… ومناجاتها لاسترضائها وكسب ودها… وهو في الحقيقة تدلل واعتزاز أن تدع الحبيبة عطرها يثير فيه أنفاسا كادت تُكتم… فيضعك داخل إطار صورة شعرية غاية في روعة الجمال… والوصف… وحسن التعبير عما يخالج الروح والنفس ويتعامل داخلها ثم يواصل قائلا : ” يحترق الشوق وأنيني ” نلاحظ هنا قمة التعبير عن شدة الوجد والشوق والكلف… حيث إن عطرها كفيل بحرق الشوق والأنين… صورة شعرية شديدة البلاغة معبرة تعبيرا عميقا تكفي عن كل وصف… بين الشاعر في هذا البيت بحثه عن صفاء عطر العراق وهواها النقي ونسيمها العليل… هو الوحيد القادر على إعادة الحياة الشذية إلى أنفاسه وهو الوحيد الذي يحرق شوقه إلى الحياة السعيدة الخالية من الجراح والأنين… ولا يكتفي شاعرنا بهذا القدر بل يواصل معبرا عن إصراره وعدم يأسه وشدة عزمه وأمله فيقول : ” كلما فرغ الكأس أملأه ” هنا الشاعر لا يعترف باليأس مع الحب والاستسلام… إذاً هي شدة الإصرار على التغيير… ثم ينتقل بنا فيقول مخاطبا حبيبته في اعتراف مفضوح أو لنقل صريح : ” من ريق شفتيك يشفيني… ما دعاني محرابك خلسة … بل جنون خمرك يهذيني…. أبحث عن خارطة شفتيك … ألمسهما بلمس يشقيني…. إذا إن كسر كأس… ” لو إن الشاعر كان يخاطب أو يناجي حبيبته لقال كلمة الرضاب إنما هو يقول من ريقك ثم يكرر الشاعر كلمتي شفتيك ويشفيني كأنما هو يتعمد ذلك ليعرف القارئ انه ما يتغزل إلا بحبيبته إلا وهي العراق وما ريق شفتيها إلا ماء دجلة والفرات هذا الماء الزلال الذي يشفيه من شدة صبابته ويمضي متغزلاً ” ما دعاني محرابك خلسة “…. يتجلى في هذا البيت مدى تعلقه بالعراق الحبيبة التي يحبها حد العبادة وهذا يظهر في قوله ” ما دعاني محرابك ” المتعبدون وحدهم الذين يمكثون في المحراب… و المحراب ما هو إلا محراب عشق الوطن وهو الوطني المشبع وطنية… ثم يتناقض مع نفسه ظاهريا حيث انه يتراوح بين العبادة وشرب الخمر وفي الحقيقة جنون الخمر ما هو إلا مادة حبه وعشقه الذي يكاد يذهب به حد الهذيان ” بل جنون خمرك يهذيني… ” ثم نجده يبحث عن خارطة شفتيها… وهو يعلم أن لمسهما بلمس سيشقيه وفي الحقيقة هو يبحث عن خارطة بلاده وخارطة شفتيها ألا هما الرافدين وهي بلادهما ثم يقول : ” إذا كأسا بكاس ” إذا هنا عودة الشاعر إلى الإصرار… باستبدال الكأس وتغيير الوضعية المزرية، وضعية الشتات والحرب المادية والمعنوية بوضعية حسنة ألا وهي كما قلنا آنفا وضعية التحرر والانعتاق واللحمة الشعبية والحمية الوطنية… والاستقرار المادي والمعنوي… ” كأس وكاس افرغ الكأس واسقيني أنا العاشق منذ سنيني دع العطر يثير أنفاسا يحترق الشوق وأنيني كلما فرغ الكأس أملأه من ريق شفتيك يشفيني ما دعاني محرابك خلسة بل جنون خمرك يهذيني أبحث عن خارطة شفتيك ألمسهما بلمس يشقيني ” .
وأحيانا تراه يجنح بك إلى الغموض فيضطرك إلى التمحيص في قلب القصيدة وتحليل ما خلف السطور وسبر أغوار القصيدة، أحيانا سطرا ، سطرا هذا إذا لم تكن كلمة كلمة، عصمت شاهين يعتمد في كتاباته السهل الممتنع والرمزية فهو يعرف كيف يتلاعب بالكلمات مثله مثل الحائك والرسام والفنان وعازف الكمنجة أو العود أو القانون يوظف رنات الأوتار حسب أفكاره وأهوائه، ذا هو عصمت شاهين الشاعر المتصابي المحب المسكون بالعاطفة الفياضة والملتهب عشقا، وأحيانا الشاب الناضج الواعي وأحيانا أخرى والرجل المواطن الرصين الوطني القح الذي يطفح وطنية ذاك الرجل المسؤول الحامل لمشاكل الأمة… ومرات تراه يبكي الوطن وأخرى تراه يغازل المرأة كالكروان… وأحيانا أخرى يبكي الطفل والعائلة المشردة والوطن التائه الضائع… حتى انه يشعرك وكأنه يعيش دوامة من الأحداث المؤلمة فيطعمها ويوشيها بالحب والغزل وانه يعيش في ديار الغربة، وهي في الحقيقة الغربة النفسية أما في قصيدته ” أنا ومن بعدي الطوفان” التي اعتبرها فريدة من نوعها في مجمل قصائده حيث أن عنوانها يشعرك من النظرة الأولى بمدى الأنانية التي تسيطر عليه ولكن إذا تمعنا أكثر في القصيدة نجد شدة قبضة البأس والنقمة واضحة وهذا ما يدلنا على أن الشاعر يعتصر قلبه سخطا وغضبا ويتساءل بلا مبالاة بالحياة التي أصبحت بلا طعم ولا قيمة لديه فيتساءل عن أهمية الطوفان وعلاقته بالموت الحاصد للأرواح ثم يواصل في حزن قائلا ” تجردنا من كل شيء ” وهنا يعني التجرد أي التعري من مقومات الحياة الآمنة ومن نعيم الوطن والقوت والانتساب ألا وهو الإفلاس التام من جماليات الحياة وقيمها… ثم يواصل قائلا : ” لقد مات الضمير ” هنا يعني ضمير العالم والأمة،… والساسة العراقيين وربما حتى بعض المواطنين كرجال الأعمال وما شابه ” وأصبحت الحياة في فوضى ” هنا تشبيه بحياة الغاب… بما أن الضمير أصبح ضمير الغاب غائبا في خبر كان ثم نجده من شدة الإحباط و اليأس يبحث عن نور ثم يمضي في حسرة مع الشك البغيض يتساءل قائلا : ” أأنوارنا في يد من خان ؟ ” هو هنا يتكلم عن الأطفال والشباب والخيرات الطبيعية التي تمتلكها العراق خاصة منها ” البترول ومشتقاته” ومنهجية التعليم حيث أن العلم نور… كأني به أيضا متيقنا أن الأنوار أي أنوار الحياة تمسك بها خونة جلادون بامتياز يكرهون النور للبلاد وللشعب ويكرهون الأمن والسعادة… والفرح… وحب الوطن… وهناء الشعب ورخائه وأمنه…. ” حيث يقول في ذات القصيدة ” : أنا ومن بعدي الطوفان هل أصبح للطوفان شأن ؟ هل تجردنا من كل شيء لم يبق عدل ولا أمان ؟ مات الضمير في فوضى أأصبح الضمير خبر كان ؟ هل نبحث عن نور بعيد أأنوارنا في يد من خان ؟ ” ثم نجد الشاعر في قصيدته التي تحمل عنوان ” احلم أكون معك ” قد أصبح العاشق الصب حيث انقلب منقلبا آخر فأصبح شابا عاشقا متيما أو متصابيا على السن متمردا حيث انه في هذه الكلمات صار أسير الشوق والصب والهوى غزلي بامتياز يحلم بان يكون مع حبيبته التي أخذته شدة الشوق إليها حتى استحوذت على كيانه وكنه مشاعره … نستشف من خلال هذه القصيدة وغيرها إن موهبته احتوت جزءا هاما من غزل ابن ربيعة وابن زيدون وغيرهما في بلاغة الوصف الشاعري المتدفق من عمق الإحساس الصادق النابض بالحياة والزاخر بالصور الشعرية التي تكاد تخرج ناطقة صارخة من بين السطور والحروف والكلمات… غزل رقيق، وتشبيب شفاف التقى فيه الشاعر بعمر ابن ربيعة زعيم شعراء الغزل هذا الشاعر الذي لا يشق له غبار وبالشاعر نزار قباني المتغزل بالوطن… عصمت شاهين هذا الشاعر المشحون العواطف المحمومة، المجنونة في ظاهرها والمكلومة التائهة في باطنها بحرارة الشوق والتوق إلى المرأة حتى انه يقول بصوته الشجي الحزين والهادئ الرزين احلم أكون معك ارقص معك يحلم الشاعر أن يكون مع الوطن يرقص معه أي مع أحداثه رقصته الحزينة في محنته حتى وان كان يقصد المرأة فهو يحلم أيضا أن يكون مع المرأة في سرائها و ضرائها ويرقص معها في التقلب مع أمواج الحياة بلينها وعنفها وعنفوانها ولطفها بحلوها ومرها… أما في قوله امسك خصرك البان وتلامس يدي يدك قد يكون الكلام موجها للمرأة فعلا وقوله ” خصرك البان ” هم الأطفال وهو عنى أيضا خصر الوطن شرقه وغربه… ” وتلامس يدي يدك ” يعنى التكتل والتعاون مع التبادل والمؤازرة،… وهو المشتاق إليه في غربته وفي اشد الحاجة لإعانة الوطن وطلب العون منه ماديا ومعنويا وهذا هو المقصود والغريب عن الديار كاليتيم الرضيع فاقد السند سند الأم والوالد… ثم يواصل فيقول في نفس القصيدة : ” احلم أكون معك على نغمات الغربة شعرك يداعب وجهي دون قيود واسمع خلجات أنفاسك على أمواج حلم أسافر معك” ويعود الشاعر إلى الحلم أن يكون مع الوطن على نغمات الغربة حزينها وشجيها ورنين تكسر القلب وهذا راجع لشدة الشوق والتعلق والارتباط بالعراق الحبيبة والأم… “شعرك يداعب وجهي دون قيود” هنا يعني الأيام والسنين والذكريات تداعب وجه حياته دون قيد، حرة طليقة وهذا تشبيه رائع يجعل القارئ والمستمع يتخيل هذا الشعر الغجري أو الحريري شعراته تتطاير على ملامح شاعرنا فتداعب وجهه وجه حياة الشاعر المغترب الفائض بالأحاسيس، المتدفق المشاعر… المنصهر عشقا للوطن وللحياة… ثم يعود الشاعر إلى الحنين حنين الابن الرضيع إلى صدر الأم وأنفاسها فيقول: ” واسمع خلجات أنفاسك على أمواج حلم أسافر معك”
على أمواج حلم أسافر معك” إذا هو يسمع خلجات أنفاس الوطن أو الحبيبة على ترددات أنفاسها وعلى ارجوحات حلم يسافر معها… ومرة أخرى مطالبا الصحبة كأني به يصر عليها وهذا يظهر جليا من خلال كلامه “وحينا نرحل معا ويتناغم بشوق صدري صدرك ” نجد في هذه القصيدة إن كلمة ” معك ” تكررت كذا مرة… وهذا ما يدل على شدة الإصرار على الرفقة والصحبة دون انفصال أو استغناء… إن رحيل المواطن عن الوطن يجعله يتمتع باشتياق شديد لوطنه وأهله فيتناغم معه بلهيب الغربة ولهيب الشوق والحنين … ويعود بنا إلى الذكريات فيقول :” تتسلل ملامح وجهك المغترب في عيوني ” هنا نجد الشاعر مدمن على استرجاع ذكريات حياته،… التي تدمن عليها حتى أسرته فجعلت ملامح الوطن والموطن تتسلل إلى ذاكرته وربما إلى واقعه الخيالي كل حين وحين… وكأني بها تتربص به ويتربص بها… ونجد شاعرنا في قصيدة أخرى بعنوان ” أنت لا مست الروح ” يخاطب صديقة أو حبيبة عرجت في حديثها عن الوطن وربما يناجي الوطن وحين يقول ” لا مست شغف القلب مجروح ” وكأني به هنا يفضي بحمل ثقيل استوطن شغف القلب المكلوم من شدة الأزمات المشحونة داخل قلب… كأني به يعني انه مثخن بالجراح، ثم يمضي فيقول ” تنهيدة تتلظى على سرير” هنا نلاحظ مدى معاناته وقمة الألم حد اللظى… هنا يخاطب الشاعر مدينته التي هي في منزلة حبيبته فيقول إن أميرها غرق في محيط شفاهها ألا وهما دجلة والفرات ولا يكفيه هذا بل يتنازل لها من شدة شغفه عن العرش والحصون ومن اجلها ترك النساء وسلم أقفال أبواب قلبه ومدينته ووطنه وكتم شعوره وجروحه وآلامه وهنا تتجلى شدة تعلقه بمدينته ووطنه رغم إن العمر هارب هنا نفهم إن أيام الشباب ولت وان ذلك في قوله “من يصد قلبي يا سيدتي نبضاته بين حلم هارب و ليل كتوم” كما نستشعر قمة الأنين والآهات التي يكتمها قلبه وما النعم إلا مدينته وهي بغداد ووطنه سواء كان هذا الوطن عليلا أو مستقلا مزدهرا وهنا شبهه بالشمس المشعة المشرقة على كل الدنيا وهنا يعني حضارة العراق ورقيها وتقدمها عالميا، إن شاعرنا كمواطن شريف يرى إن ركون بغداده عروس المدائن تحت الفوضى والهجمات الانتحارية هو إرهاب بعينه يخيفه وهو المحب المتيم بوطنه ومدينته يخاف أن يظل هذا الوطن الحبيب تحت وطأة الحروب الأهلية الطائفية الحزبية وطائلة الإرهاب… هذا الأمر الكريه يخيفه ويرعبه وهنا يطلب منها بل ومستنهضا فيترجاها بان تنفض عنها كل هذه الجروح والآلام والقروح والهموم… وهو العاشق للعراق وتنهض وتنتفض كفراشة تمتص الرحيق وتلقح الأشجار… بين الدول صيتها يعلو ورحيقها وطلعها ينتشر فتفرض وجودها… وتعود لسالف عهدها وهي بلاد الرافدين بلاد المجد والعلم والشعر والأدب والحضارة ثم يعود فيخاطب بغداد قائلا : سيدتي يا بلسم الجراح وملاك النبض المنكوب لا ترفعي راية الخنوع بين هوى حاسب ومحسوب لا ترمي جمال الإنعام بالضباب فالنصر آت بعد دمار الحروب صبرك الجميل جنان فيه يزقزق العصفور ويغرد البلبل الدؤوب يكون حلمك حضارة كبرى تكوني ملكة وفيه النساء نجمات ليس صور متحركة على اليوتيوب ”
هنا يريد وطنه وبغداد أن تكون دواء لجراح الوطن العربي ولجراحها وان تكون رايتها راية النصر مرفوعة مرفرفة في أباء بين رايات الأمم وفي محافل الدول ثم يقول متفائلا ” فالنصر آت بعد دمار الحروب ” وهو متيقن أن النصر آت ولو بعد حين… ثم يعلل النفس بالجنان بعد الصبر وان في هذا الجنان إلا وهو رغد الدولة أن الأطفال جيل المستقبل ورجال الغد الذين شبههم بالعصافير ستفرح العراق بهم وبها يفرحون ويكرعون العلم وينجحون ويفرحون وعلى أيديهم تعود حضارة بابل ومجد العراق الضائع وموخها بين الأمم… ثم يناديها قائلا : ” تكوني ملكة وفيه النساء نجمات ليس صور متحركة على اليوتيوب” ستكونين سيدة مدن العالم والدول هنا قصد مدينة بغداد ودولته دولة العراق وان لا تكون من الدول الهزيلة التي تتمتع بالتبعية للدول العظمى وتفتقد للمكانة وليس لها بين الحضارات اثر… والتي شبهها في احتقار ” بالدمى المتحركة ” التي تحركها وتسيرها الدول العظمى لقد أحسن التشبيه بالصور المتحركة على اليوتيوب… وهنا قصد في العالم حيث أن الشبكة العنكبوتية شبكة عالمية حتى أن العالم أصبح كشارع مفتوح… إذاً نستخلص قائلين إن شاعرنا يمكننا أن نسميه بشاعر القضية أو شاعر الأمة… لقد كان في جل أشعاره يحبك الصور الشعرية بحنكة قل وندر أن نجد مثلها بين شعراء زمن الرداءة… وهذه الحبكة نجدها لدى الشعراء الصعاليك والشعراء المخضرمين ولدى المتنبي ولدى امرئ القيس وأمير الشعراء احمد شوقي وشاكر السياب ونزار قباني ومحمود درويش وادونيس” … أنت لامست الروح – بان شغاف القلب مجروح – تنهيدة تتلظى على سرير تبوح تارة بالقبلات وتارة القبلات تبوح – أنا أميرك المعنى غرقت في محيط شفتيك تنازلت عن العرش والصروح – تركت النساء وراء النساء سلمت أقفال الأبواب ودونت ما بحت وأبوح ” .
******
من يصد قلبي يا سيدتي نبضاته بين حلم هارب وليل كتوم
– وما النعم إلا أنت إن كنت على وسادة أو كأشعة الشمس تحوم
– صمتك إرهاب فلا ترهبيني بالصمت فلست إلا عاشق يبحث عنك بين الهموم
– انهضي ، تحركي ، تفجري عشقا كوني كالفراشة بين ألوان الورود تشم عبير المقسوم
************
سيدتي يا بلسم الجراح وملاك النبض المنكوب
– لا ترفعي راية الخنوع بين هوى حاسب ومحسوب
– لا ترمي جمال الإنعام بالضباب فالنصر آت بعد دمار الحروب
– صبرك الجميل جنان فيه يزقزق العصفور ويغرد البلبل الدؤوب
– يكون حلمك حضارة كبرى تكوني ملكة وفيه النساء نجمات ليس صور متحركة على اليوتيوب
************
سيدتي لامست الروح فكوني في حياتي روح الروح
– أنت لامست الروح بان شغاف القلب مجروح
– تنهيدة تتلظى على سرير تبوح – تارة بالقبلات وتارة القبلات تبوح
– أنا أميرك المعنى غرقت في محيط شفتيك تنازلت عن العرش والصروح
– تركت النساء وراء النساء سلمت أقفال الأبواب ودونت ما بحت وأبوح
أما في قصيدته ” أجنحة الأحلام” كأني بشاعرنا هنا يخاطب القارئ بل المعني بالأمر هو المواطن العراقي وربما العربي ككل مبينا له أن مرافئ الحياة لا تنتظر الحالم الغائب عن الواقع، واقع الحياة، وسير دواليبها حيث إن الغائب عن الواقع أو الحالم لا مركبة له سوى الأوهام التي عبر عنها بالأحلام… وان هذه المواني تتأمل نورا في سرب الآفاق أي مستقبل الأيام الرحبة والأفضل، هنا يتطلع الشاعر إلى الطموح أي طموحه وطموح شباب بلاده الزاخر بالنجاحات والابتكارات… حيث أن أعمال الجيل الصاعد هي وحدها المجددة للحياة ورقي أسلوبها ونمط عيشها ومستواها العالمي بالكد والجد والعلوم… نعم الأوطان لا ترقى إلا برقي شعوبها إن التجليات وحدها التي تمسح الآثار القديمة وتجدد الأطلال، ألا وهي مجد العراق القديم المجد التليد لقاء العشاق… عشاق الوطن وبناء مجده وعزه ورخائه، ورفع رايته شامخة بين رايات الأمم… ويتعمق الشاعر أكثر فيتجه إلى المواطن مباشرة بقوله: ” تعال نجدد الحياة هونا وعلى الملأ أن يكتبوا ما هو باقي ” هنا يبين الشاعر دعوته الصريحة للمواطن العراقي حيث انه يواصل الطلب من العراقيين بتجديد حياة العراق وحياتهم كعراقيين شيئا فشيا أو لنقل رويدا ،رويدا للعودة بالعراق لسالف عهدها التليد ومجدها العتيد والسير بها قدما نحو الرقي والازدهار العلمي والتكنولوجي والمعرفي حتى تصبح العراق كما كانت درة العالم وطودا راسخا لا تهزه عواصف الزمن ولا ترجرجه المحن ولا ينحني لحثالة الأمم… ففي هذه القصيدة نجد الشاعر وكأني به يترجى المواطن ويحرضه على تجديد العراق وإعادة بناءه ماديا ومعنويا مع تكاتف الجهود والتعاون باستمرار لا عادة مجد الوطن وان لا فائدة من عيش على تاريخ ماضي الأجداد الأمجاد والتمرغ على الجروح… وانه لا بد من بداية جديدة للبلاد يكون فيها التحديث والتشييد والنهضة العلمية والاقتصادية وفي جميع الميادين حتى تلتحق العراق بركب الشعوب المتقدمة وتنتفض من جديد كالعروس البهيج… فيعود للعراق ما فقدته من كرامة وعزة ومكانة بين الأمم ومحافل الدول… فبتكاتف الجهود وتضافرها مع اللحمة والتسامح والتصالح يعود ما ضاع… وان لا فائدة من البكاء على الأطلال واجترار الماضي… وعلى العالم أن يكتب ما هو باق من جينات عراقية صرفة أمجاد أبناء أمجاد علماء أبناء علماء أفذاذ أبناء أفذاذ… نلاحظ أن الشاعر يتمتع بالوطنية القحة كما أن شعره مترع بروعة التشبيه والرمزية وبالصور الشعرية المعبرة عن شاعرية مفعمة الأحاسيس مع تلاطم المشاعر الصاخبة… ” أجنحة الأحلام الموانئ لا تنتظر الغائب بل تتأمل نورا في سرب الٱفاقِ مياه الأمواج تمسح ٱثار قديمة تجدد الٱثار لقاء العشاقِ تعال نجدد الحياة هونا وعلى الملأ أن يكتبوا ما هو باقي” .
ويمضي شاعرنا عصمت شاهين دوسكي كما عودنا في منهجية شعره الزاخرة والمحشوة حشوا بالبلاغة و الصور الشعرية أن له روعة الإبداع وحسن الوصف في جل قصائده وفي قصيدته ” أيام عجاف ” التي يقول فيها أيام عجاف أقبل الصيف لم يقتل الداء الطامة الكبرى لا كهرباء لا ماء يهرب الرغيف إلى عالم الحلم يرسم دقيقا وملحا وأيدي بيضاء ثم يواصل قائلا : أيام عجاف كأنها بلا إحساس ترمي المجروح في حفرة بين أنياب حادة مرة تبحث عن الناس صوت الأذان يعلو حزنا محراب الكنائس بلا لون أنين في ضجة الأجراس آه من نار الشموع آه من حرقة الدموع إنها أيام الحروب… السوق السوداء وأثرياء الحروب… واللوبيات واحتكار كل شيء ربما حتى حق الحياة ثم يمضي معاتبا في نقمة وسخط على الأيام السوداء وشدة قسوتها واللا مبالاتها بما يحدث للمواطن البسيط والضعيف… والفقير هنا يؤكد إن بساط الحياة سحبه من تحت أقدام الشعب أهل السياسة ومديري الحروب وشياطينها خلف الستار أو في الكواليس. شاعرنا المرهف الإحساس والملتهب المشاعر… المتراوح في أشعاره بين الفرح والآهة والأمل والعذاب… عباراته المفعمة والمتدفقة بحرارة وصدق شاعري والملتهبة المشاعر وحنكة شاعرية فيها تعبير عما يختلج في قلبه من أحاسيس دفاقة وما يدور بخلده من أفكار مقرونة بصور شعرية أثقلت صدره بالهموم والنكبات وعبرت عن حسرته الكبيرة على ضياع بلاده في متاهات الحرب والاستعمار والناعورات الداخلية حد التشوق إلى رفاهة الاستقرار الذي ناشده في المرأة ووجد ملاذه في حبها… اختار شاعرنا أن يكون الناطق المدافع عن المرأة فنجده ينادي المرأة إلى الانعتاق والتمرد على العادات والتقاليد وكسر طوق الانغلاق والأسر المعنوي الذي فرضه عليها المجتمع الرجالي… إذاً فهو فضل أن يكون لسان عصره وحامل فوهة قلمه لنقد وتاريخ أحداث وطنه البشعة يمكننا انه نصب نفسه الشاعر الحاكم والقاضي و الجلاد والمحلل الباحث عن النور بين مسارب الحياة فحصل أسلوب الحياة بجماله وحسنه وقبحه وشؤمه ولؤمه. شاعرنا تعابيره غير صعبة وغير معقدة بل هي سلسة يفهمها القارئ البسيط بل العموم إلا أن له خلفية شديدة ومعقدة تتجلى عند سبر أغواره وتفحصه ودرسه… فمن خلال أشعاره بمختلف مواضيعها ندرك انه رجل صلب ذو رباطة جاس ثابت القوام لا يعرف الخنوع ولا الضعف ولا الانحناء ولا يرضى الذل والانهزام… ولا الانهيار… رغم انه يشعر بالإحباط…. شاعرنا شاعر يحمل رسالة نبيلة عرف كيف يحملها بأمانة خاصة وانه ذو إحساس شعري فياض فنجده تارة يبث في روح قارئه الأمل والتفاؤل وتارة يبعث فيه روح الحماس والإقدام وعدم الاستسلام … رغم الحروب والظلم والدمار الذي شهده العراق وشعبه… رغم الاضطهاد الذي تعرض له علماءه وخيرة رجاله الإعلام ومكتباته ومخابره العلمية… إن شاعرنا مدرك تمام الإدراك إن رسالته ستؤتي أكلها وان الشمس ستشرق وان البدر سيزيح الظلام وسترق النجوم ويزهر الربيع… ويسمع لخرير المياه العذبة صوتا صوت العلم والأمان.