العراق الموقع الدولة الريعية والإستبداد  –   د. ماجد احمد الزاملي 

 

أنَّ الاهمية الجيوستراتيجية لموقع العراق الجغرافي تُحتِّم على القائمين على السلطة توخي الحكمة والتأني في السلوك السياسي الداخلي والخارجي، وتبني القرارات على وفق رؤية واقعية وحسابات تجنب البلد المخاطر، وقد ادى التهور وعدم الاتزان والاندفاع اللاعقلاني الى ادخال العراق في ازمات ومشكلات داخلية وخارجية الحقت اضراراً كبيرة بحاضر الدولة ومستقبلها، ويجب توظيف اهمية موقع العراق في تعزيز مكانته ودوره الاقليمي.

الدولة العراقية دولة ريعية، وتنتج الدولة الريعية حكومات استبدادية لأنها تُموِّل نفسها من عائدات النفط مما يجعلها في غنى عن الاعتماد على ما يدفعه المواطنون من ضرائب، ويعني ذلك بقائها بناءً فوقياً لا يحتاج الى دعم المواطنين بوصفهم مصدر الشرعية فيتحرر النظام السياسي من رقابة المجتمع وآليات المحاسبة، وتوظف الموارد والثروة في بناء الاجهزة الامنية القمعية لترسيخ حكم الفرد وادامة وجود النظام السياسي على حساب التنمية الاجتماعية السياسية الاقتصادية، وتتحول الدولة الى دولة الحاكم صاحب العطايا والمكرمات وهي دولة الاستبداد والبطالة والفقر على عكس حال الدولة التي تقوم بمهامها ووظائفها في حماية المجتمع وتقديم الخدمات مقابل الضريبة التي يدفعها المواطنون وولائهم لها واحترامهم لقوانينها وقراراتها، ولهذه الدولة القدرة على تنمية المواطنة التي يتحقق من خلالها التماهي بين الدولة والمجتمع. تتضح من خلال بعض العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع الإنفاق العام. وأهم تلك العوامل انتشار المبادئ الديمقراطية وزيادة نفقات التمثيل الخارجي. فترتب على اتساع المبادئ والنظم الديمقراطية اهتمام الدولة بحالة الطبقات الكادحة والقيام بالكثير من الخدمات الضرورية لها، فضلاً عن أن التعددية الحزبية تدفع عادة بالحزب الحاكم إلى الإكثار من المشروعات الاجتماعية أرضاءً للناخبين، وإلى الإفراط في تعيين الموظفين مكافأة لأنصاره، الأمر الذي يسهم في زيادة النفقات العامة. كذلك يؤدي رسوخ مبدأ مسؤولية الدولة أمام القضاء إلى تنامي الإنفاق الحكومي لمواجهة ما يحكم به على الدولة من تعويض للأفراد جراء ما يلحقهم من ضرر نتيجة للقيام بالأعمال العامة. ومن ناحية أخرى أدى تطور العلاقات الدولية وتزايد عدد الدول المستقلة إلى اتساع درجة التمثيل الدبلوماسي من جهة وارتفاع نفقات المساهمة في المنظمات الدولية (المتخصصة وغير المتخصصة) والإقليمية من جهة ثانية. إن المتتبع لحركة الإنفاق العام في العراق وبخاصة خلال العقدين الأخيرين، يلاحظ ارتفاعا مهما في الأرقام عبر السنوات، ولكن في حقيقة الأمر هي زيادة ظاهرية في غالبيتها، والسبب الرئيس وراء ذلك هو معدلات التضخم العالية التي شهدها البلد. بحيث كان معظم زيادة الإنفاق العام لمواجهة الارتفاع في المستوى العام للأسعار، لم يصب في تحقيق المنفعة العامة للمجتمع , لعدم وجود سلطة إشراف شرعية وإطار تنظيمي للإجراءات المتعلقة بالإنفاق في العراق.

مثلما نتحدث في الأقتصاد على الطلب الفعال ، ونعني به الرغبة في الشراء مقرونة بالقدرة الشرائية فإننا، في السياسة الخارجية نتحدث عن السياسة الخارجية الفعّالة ، ونقصد بها الرغبة في تحقيق هدف خارجي مقرونة بالقدرة على تحقيق الهدف. فالعوامل المؤثرة والمهمة في تحديد السياسة الخارجية للدول ايضاً كذلك ، المحددات الشخصية لصانع القرار في السياسة الخارجية.لأن غالبا ما تنعكس سلوكيات صانعوا القرار على السياسة الخارجية ،وبالتالي يجب التركيز على شخصياتهم،لان العامل القيادي يلعب دوراً مهما في عملية صنع القرار الخارجي،خاصة في دول العالم الثالث ،بحيث أن الرئيس في هذه الدول يمثل العامل الحاسم في عملية صناعة القرار،وبما أن القرارات الصادرة عن الدولة في النهاية هي من صنع شخص أو مجموعة أشخاص،كان للسمات الشخصية لدى هؤلاء الأشخاص التأثير الكبير على تحديد السياسة الخارجية.ونعني بالسمات الشخصية هي مجموعة الخصائص المرتبطة بالتكوين المعرفي والسلوكي. إنَّ تحديد موقع الهدف من أولويات أهداف السياسية الخارجية ويرتبط بمفهوم صانع السياسة الخارجية لهذا الموقع ، فالمحورية أو هامشية الأهداف ليس حالة مطلقة ولكنها تختلف من دولة إلى وحدة دولية أخرى وبأختلاف النمط العام لسياستها الخارجية ، ومن ثم ّ فإن الأهداف العليا لسياسة خارجية معينة قد تكون هامشية لسياسة دول أخرى ، مثال على ذلك فهدف التحدي للشيوعية في العالم كان من الأهداف العليا للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينيات ، ولكنه كان هدفاً ثانوياً للسياسة الخارجية العراقية في الوقت ذاته ، ويعزز أختلاف علوية الأهداف ، وهامشية الأهداف هو أحد مصادر التناقض في السياسات الخارجية للدولة الواحدة يتغير بتغير عنصر الزمن ، فهدف الوحدة العربية كان هدفاً متوسط للسياسة الخارجية المصرية في الخمسينيات لكنه تغيير فيما بعد وأصبح هدفاً هامشياً للسياسة الخارجية المصرية في عقد السبعينات. العلاقات الدولية لم تصبح علما أكاديميا إلا بعد الحرب العالميـة الأولى عندما وضع كرسي ودر ويلوسون في جامعة ويلز لذلك فان تعريفاتها مازالت حديثة ومتغيرة . وقد استغل العديد من الحكام المستبدين في المنطقة العربية الاختلافات العرقية والدينية والطائفية للمحافظة على حكمهم. وتعود استراتيجية “فرّق تسد” هذه إلى فترة الاستعمار، عندما رفعت السلطات الأوروبية من شأن أقليات اجتماعية لتحكم الأغلبية. ومن الصعب التصديق بأن الحكام المستبدين لن يتراجعوا عن اتفاقات السلام ويلجأوا إلى مثل هذه الاستراتيجيات في المستقبل. وعلاوة على ذلك، فإن افتقار الحكومات العربية عموماً للمسائلة يعني أن مجتمعاتها لا يمكن أن تثق بها في تنفيذ تدابير بناء السلام. السياسةالخارجية تصنع داخل الدولة وهي انعكاس لسياستها الداخلية.أماالعلاقات الدولية فهي كما عرفها “مارسيل ميرل”:”كل التدفقات التي تعبر الحدود أو حتى تتطلع نحو عبورها،هي تدفقات يمكن وصفها بالعلاقات الدولية.وتشمل هذه التدفقات بالطبع على العلاقات بين حكومات هذه الدول ولكن أيضا على العلاقات بين الأفراد والمجموعات العامة أو الخاصة،التي تقع على جانبي الحدود_كما تشمل_جميع الأنشطة التقليدية للحكومات:الدبلوماسية، المفاوضات،الحرب…وغيرها ولكنها تشمل أيضا في الوقت نفسه على تدفقات من طبيعة أخرى_اقتصادية،إيديولوجية،سكانية، رياضية ،ثقافية،سياحية…إلى غير ذلك . فالسياسة الخارجية لا تخرج عن إطار سلوكيات الدولة وأنشطتها الخارجية التي تسعى إلى تحقيق أهداف مسطرة سواءً كانت أهدافاً قريبة أم بعيدة الأمد ،وتتميز السياسة الخارجية بالطابع الرسمي الذي يُحدد من يقوم بوضع هذه السياسة كما أنها تتميز بالطابع الخارجي والذي يحدد الجهة التي توجَّه إليها السياسة الخارجية والتي دوماً تكون خارج حدود الدولة وتتنوع هذه الجهات وفقاً لتنوع الفواعل في العلاقات الدولية.

التحدي البارز الذي يعاني منه العراق هو هشاشة الوضع الداخلي، وبقي تحت حكم ديكتاتوري تسلطي، وبذلك يتمثل بالثورة المعرفية واثار العولمة وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، ففي عصر العولمة يعاني المواطن في البلدان النامية ضعفا في القدرة المعرفية، الامر الذي يمثل تحديا له ولمؤسسات الدولة، فالدول باتت تتحدث بلغة التكنولوجيا، وعلى العراق استقطاب التكنولوجيا المعرفية والنهوض علمياً.

لقد بذل العراق جهوداً كبيرة نحو وضع برامج تنموية شاملة، الاّ أنه لم يتم بصورة منهجية ربط التخطيط الوطني بعملية اتخاذ القرارات السياسية: تمت بلورة الأوليات الحكومية والإستراتيجيات التنموية المقترحة في السنوات الماضية بمشاركة او ربط غير كافيين في النهاية بعملية اتخاذ القرار السياسي. وبدون مثل هذا الإلتزام السياسي، تواجه مثل هذه الخطط الوطنية خطراً أن تصبح بيانات نظرية بدلاً من أن تقود الى برامج.وقد أظهرت التجربة الدولية أن الإشراف السياسي والمسائلة أساسيين لتنفيذ السياسة العامة. وبدون مسائلة واضحة من الوزارات عن أدائها، لايمكن ضمان التنفيذ الناجح للأوليات الحكومية. إن ضعف قدرات الوزارة والمحافظات على رصد التقدم المحرز نحو التنفيذ وتقديم تقارير بهذا الشأن، قد ساهم في قلة الإشراف. بدأت الحكومة في تنفيذ التغييرات التي تهدف إلى خلق دولة تكون فيها حقوق الإنسان محمية بشكل أفضل ومطبقة بشكل أكثر متانة من خلال القانون و المؤسسات الديمقراطية. ومع وجود مستويات أعلى من الرؤية لإنتهاكات حقوق الإنسان، هناك حاجة لإخضاع المتورطين في إنتهاكات حقوق الإنسان للمسائلة عن أفعالهم في إطار الآليات القائمة، في حين ينبغي أيضا النظر في وضع تدابير إضافية. إضافة إلى ما سبق، فإن منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً متزايداً في مجال المناصرة والدعم، ووسائل الإعلام تسعى جاهدة للترويج للإستقلالية والمهنية.

لقد تضافرت عوامل الانهيار السريع للنظام السياسي السابق بعد الاحتلال الامريكي عام 2003، وانعدام الامن، وحضور الثقافة السياسية التقليدية في عقلية الفرد والمجتمع وادت الى تفتيت المجتمع وتحوله الى قطاعات تمسكت بالانتماءآت التقليدية الاولية بحثاً عن الحماية والامن، وتصاعد الدور السياسي للمكونات الاجتماعية التي اصبحت جزءاً من معادلة توازن القوى على الساحة السياسية العراقية، وعملت سلطة الاحتلال على تفتيت المجتمع من خلال التأكيد على المكونات ونظام المحاصصة الطائفية والعرقية التي جسدها تشكيل مجلس الحكم وقانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 ,مما أثر سلباً على الولاء للدولة وتحولت الاحزاب السياسية الى امتدادات للتكوينات الاجتماعية، وضعفت قدرتها على الاستقطاب الافقي للمواطنين فضلاً عن عجزها عن تبني اطر فكرية وبرامج سياسية وطنية تسمو على الانتماءات الفرعية التقليدية فبرزت المسألة الطائفية في الثقافة السياسية للمجتمع وساعد على بروزها التعددية القومية والدينية والمذهبية للمجتمع العراقي وانعكس هذا الواقع على النواحي السياسية والاجتماعية والفكرية للمجتمع ولحق ضرر كبير بالوحدة الوطنية والفكرية للمجتمع.

وقد احدث الاحتلال الامريكي للعراق تغييراً غير موجه عندما تم اسقاط النظام السياسي وازاحة طبقة سياسية، واحلال اخرى محلها ووقعت تحولات في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن الممكن تحويل هذا التغيير غير الموجه الى تغيير موجه ومخطط له عبر تغيير نمط الثقافة التقليدية السائدة من خلال اضطلاع النظام السياسي بهذه المهمة بتوافقه واتفاقه مع المؤسسات المعنية بالتنشئة الاجتماعية السياسية على هدف مشترك هو خلق الفرد والمجتمع الوطني المتماسك الواعي لحقوقه وواجباته والقادرعلى اداء دوره الاجتماعي السياسي، وبدون وجود هذه النوعية المتفاعلة والمتكاملة والمندمجة من الافراد التي تشكل المجتمع لن يتحقق هدف بناء الدولة العراقية العصرية الموحدة القادرة على التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية الان وفي المستقبل اذ يمكن صياغة افضل الدساتير، ووضع الاسس والقواعد النظرية لأفضل المؤسسات، وتشريع اكثر القوانين عدالة.