كاتب و باحث عراقي/ المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة
سَّكَ اليابانيون مصطلح “كاروشي”، للإشارة إلى أولئك؛ الذين يسقطون ميَّتين، من كُثرة التعب، نتيجة قيامهم بعملٍ يومي مُجهد. التجارب السياسيَّة العراقيَّة، لمُغادرة النظام الطائفي و العرقي في البِلاد، بعد 2003م، أُصيبت جميعُها بـ “كاروشي”، الأمم المتحدة.
يونامي، أو بعثة الأُمم المتحدة لمساعدة العراق، كانت التمارين السويدية؛ التي اتفق عليها المجتمع الدولي، لمساعدة النظام الذي أوجده الاحتلال الأمريكي؛ على تكييف سُمنته الطائفيَّة و العرقيَّة، الناتِجة من التِهام، بطاطس الديموقراطية، المقليَّة على سُرفات اليانكي.
يونامي، تعملُ منذُ عشرون عاماً، كقاعة للكمال الديموقراطي. تحديداً، منذُ إصدار مجلس الأمن، في 14 أغسطس 2003م، القرار رقم (1500)، ليُعيد بعدها تجديد القاعة، في مايو 2022، بالقرار 2631.
نسأل: ما الذي حققته يونامي لتمنع “كاروشي” السياسة في العراق و تقليل تأثيرات بطاطس السُرفات؟
استطاعت توسيع حصَّة الأمم المتحِدة، في البلاد، إلى أربعة و عشرين جهازاً، يُديرها أكثر من ستمائة موظف. طبعاً، لا أحد يعرِفُ بالضبط، مقدار الأموال، التي تستهلِكُها تلك الأجهزة و مُشغليها، من الميزانيَّة العراقيَّة، و مخصصات الدعم الدولي للبلاد. لكن يونامي، تمتَّعت دائماً ببرامجِ عملٍ، من النوع البرَّاق و الرنان. مثلاً، “الحوار السياسي الشامل”، “المصالحة الوطنية والمجتمعية”، “المساعدة في العملية الانتخابية”، “تيسير الحوار الإقليمي بين العراق وجيرانه”، “تعزيز حماية حقوق الإنسان”، و “الإصلاح القضائي والقانوني”.
الواقع في بغداد، بعيداً عن نيويورك، إنَّ العراق، عُملة كازينو دولي، يُديروه مُشغِّلون إقليميون. لهذا فإنَّ ما تحقق من برامجٍ، لم تكُن ورائه نعمة أُممية، ولا حراثة يوناميَّة. ما علينا إلَّا أن نُذكِّر، بأنَّ علاقة العراق مع جيرانه، تحسَّنت، لأنه لَعِبَ دوراً إعلانيَّاً، لمرهم إزالة التشنج الجيواستراتيجي، بين طهران و العرب، لطقطقة جسد الصفقة النووية، في فيينا.
المِثال الآخر، هو الحوار الجاري الآن، بين الكُتل السياسيَّة. حقيقتُه، إنَّهُ مفروض من واشنطن، لاستمرارية دعم النظام. خُلاصتُه تنحيف حجم الميليشيات، و تسمير جِلد النظام، “الشيعي – الكردي”، بمزيدٍ من الصبغة “السُّنية”، و العَلمانيَّة، ذات اللثغة النيولبراليَّة.
يونامي، و باعترافٍ غير مباشر، من إحدى شقيقاتِها الأُمميات، لجنة الاختفاء القسري في العراق، لم تنجح؛ لا في تحقيق المصالحة المجتمعيَّة، ولا في حماية حقوق الإنسان، إذ كشف تقريرُ الشقيقة، في أبريل 2023م، إنَّ النظام، ساهم بإشغال الأراضي العراقيَّة، بمزيدٍ من ضحايا السجون، المعتقلات، وانتقائيَّة قانون “أربعة إرهاب”، المُخصَّص لاصطياد “السُّنة”، من قبل “شيعة السُلطة”. و الجُملة السابِقة، ليس تخفيفاً لثُقل الحقائق، و إنّما حقيقة لا نفع فيها، لكثيرٍ من الوطنيين! لأنها حطبٌ رطِب، لا يحترق، في المدخنة الديموقراطية، للعم سام.
المساعدة في العملية الانتخابيَّة، لم تحصل هي الأُخرى. انتخابات مجالس المحافظات، في أكتوبر 2023م؛ ستدخل الصيدليَّة الحزبيَّة، لتناول فياغرا نظام سانت ليغو الرياضي، وبالتالي تسهيل هضم صوت الناخب. ما يعنيه ذلك، و باختصار، جُملة، اقترِحُ على شخوص النظام الحالي، استخدامها، في مجالسِهم الخاصَّة: صوَّت أو لا تصوَّت فالصندوق لنا.
يونامي، اشتغلت على الشكل الخارجي للنظام. عمِلت كغسَّالة اُممية فول استراتيجية أمريكية، لتنظيف النظام، و تسويقه أبيضاً، على حبل المجتمع الدولي. حتّى الاعترافات بالأداء البشع لهذا الهجين “المؤطلس” – الأطلسي- كانت و بالاختزال و التصرُّف في كلمات، نورينا هيرتس، عن دليل جمعية “روكوس” للاحتجاج، و مقرُّها كاليفورنيا، مسرحيَّة لـ: ” استغفال ضمير العالم، باستخدام دموع مُزيَّفة، تملأ علبة شامبو سفرية، لأن منظر الدموع، لديه تأثيرٌ جيد وثمين على جمهور الأمم المتحدة”.
أقرأ، أسمع، و حلِّل، كُل إحاطة، قدَّمتها ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين بلاسخارت، منذُ 2018 و حتّى يومِنا هذا؛ ستجِدُ تلَّة من حِبال الغسيل و عُلب الشامبو. عند سؤالِ يونامي، عموماً، إن كان وضع العراق، يحتمِلُ التدوير الحاصل لهذا النظام، تُجيبُك: “نحن بعثة مساعدة لا مُراقبة”!
يبرز هُنا سؤال، يدفعُنا لتجديد السؤال عن ماهيَّة يونامي، مفادُه: ما سبب إخفاق البعثة الأُممية لمساعدة العراق؟
نبدأ بجون بولتون، و الذي شغِلَ منصِب، السفير الأمريكي إلى الأمم المتحدة، في عهد الرئيس بوش الأب. قيمة الأمم المتحدة لديه، بحسب ما نقل عنه البروفيسور إيان شابيرو: ” لا يوجد شيء أسمهُ الأمم المتحدة وإذا فقدت الأمانة العامّة في نيويورك عشراً من طبقاتها فلن يُحدث ذلك فرقاً كبيراً”.
الخط البياني، لتعامل واشنطن مع الأمم المتحدة، يُرينا شيئاً آخر. إنَّها لا تستطيع الاستغناء عنها، و الاتيان بواحِدة جديدة. روبرت كيوهان، يشير إلى ما يُشبِه قانوناً، يتبعهُ الجميع: ” إنّ كُلفة إنشاء المنظمات الدولية أكبر من كُلفة المحافظة عليها”. المقصود هنا، و على الأرجح، الكُلف المعنويَّة، الثقة في الأداء، و قابليَّة التحوَّل من سيفٍ لبعض الدول (قرارات مجلس الأمن و حقِّ الفيتو)، إلى درعٍ لمعظمها (قرارات الجمعية العامَّة للأمم المتحدة).
إدارة يونامي، للأعمال الأُممية في العراق، ترتدي نظَّارة بولتون، و تُشبِه دليل جمعية “روكوس” لدعم المحتجين، من شخوص النظام، على المجتمع الدولي. السياسي العراقي، محمد إقبال، يُقدِّمُ لنا دليلاً، نختصِرهُ، و بدون تأثيرٍ يُذكر، على نسبة عنصر بولتون، في إداء يونامي:” تنتقي الملفات الداخلية، يفضلون اللقاءات الخاصة مع كبار المسؤولين و إحاطتها بسرية كبيرة، لتتمخض عنها بيانات تتناول الخطوط العامة، دون ذكر التفاصيل”.
دليل عملُها كـ “روكوس” لصالح النظام، و دوافع ذلك، بحسب إقبال، و باختصارٍ أيضاً: ” إنَّ بعض الشخصيات التي تولت مسؤولية البعثة، كانت تشوبها العديد من شبهات الفساد، مما انعكس على حياديتها، تجاه العديد من قضايا حقوق الإنسان ونتائج الانتخابات التي جرت منذ عام 2003، والحكومات كانت حريصة على بقاءها، لدرء الشبهات عنها؛ فيما يتعلق بتقارير المنظمات الدولية، عن انتهاكات حقوق الإنسان. بقاء يونامي، نوع من الحماية الدبلوماسية للحكومات في العراق”.
إنَّ يونامي، و العديد من الجهات الأٌممية، العاملة في العراق، لا تحترم حتّى حرية التعبير في العراق، رغم تأكيد ممثلته على أهميَّة هذا الحق، في تفاصيل إحاطتها الأخيرة. جرَّب مثلاً كما فعلنا، أن توجِّه أسئلةٍ صحافية، إليها. مباشرةً، تصبح هذه المنظمات نحلاً، يُلقِّحُ المسؤولين العراقيين، باللقاءات. الهدف أن لا تضطر يوني لإجابتك!
الإحاطة الأخيرة للممثلة الأُممية، و رغم اتهامها بتصعيد النبرة تجاه النظام، لا يعدو سوى رقصة تانغو، مع إعلان الرئيس بايدن، تمديد حالة الطوارئ في العراق، القرار (13303)، و بالتزامن مع تصريحات السفيرة رومانوسكي؛ التي ربطت الملف الاقتصادي بوضع الميليشيات.
نتيجة رقصة نيويورك و واشنطن، كانت تمديد مجلس الأمن، لأعمال يونامي، في العراق، يوم 18 مايو 2023، لسنة إضافيَّة. تحديداً، إلى نهاية مايو 2024م. أمّا في بغداد؛ فقد أدَّت إلى ارتفاع، مبيعات البنك المركزي العراقي، خلال خمسة من الأيام الماضية، إلى ما فوق المليار دولار! كردٍّ إيراني على التطنيش الأمريكي، لدفعِ ثمن ضبطِها، للإيقاع الميليشاوي، في الفترة الماضية.
بعد كُلِّ ما تقدَّم، نُبارِك لـ يونامي، دخولها، السنة الحادية و العشرين، من الزواج مع النظام السياسي العراقي، مُحذِّرين الراغبين في تغييره، من “النضال الأُممي”. متسائلين إن كانت ستقوم في سنتِها الجديدة، بدورٍ مختلف، يُساعد في إعراب المستقبل العراقي، بقواعدٍ وطنيَّة.