الإنسان الذي يعيش في المنفى تكون أفكاره في أكثر الأحيان مثالية وغير واقعية ، وهو يتحدث من عالم الصور القديمة المخزونة في الذاكرة مضافاً الى ما يسمعه على مدار الساعة من هنا وهناك ، وبشكل عام هو ليس ابن الواقع ، فهو قد خرج من معاناة الواقع الى معاناة من نوع أخر فيها أكثر مرارة ولكنها أقل ألماً ، يمتلك نقاوة التفكير والوعي غير الملوث ، لذلك نرى مقالاته وأفكاره التي يكتبها مليئة بالإحساس الصادق . يحاول في كل مقالة أحياء الوعي عند أبناء وطنه وأبناء جلدته فهو يرى آلامهم بوضوح ويعرف علة هذه الآلام بسبب إدراكه إن الوعي هو الحلقة المفقودة في المجتمع الذي تركه وهو نقطة الضعف في كل ما يجري من داخل بلده الأصلي . كل كتاباته تدور في هذه الدائرة الصغيرة والكبيرة بنفس الوقت ، ولا يدري بأن الوعي هو جزء من منظومة الحياة وليس شيء منفصل ، المجتمع الذي يعاني من مشاكل كبيرة كالفقر والظلم والفساد والحرمان وضعف التعليم وسوء الخدمات تتشكل عنده أفكار كبيرة لكنها خالية من الوعي بل ان الوعي يصبح من المستحيلات . للأسف يعتقدها ذلك الإنسان المغترب من البديهيات الممكنة ، لأنه هو الأخر عرف العلة وجهل حجمها ، لذلك فأن كل كتاباته تذهب ادراج الرياح ، ولن تأتي ثمارها لأن الأفكار التي يعيشها الناس محشوة بمانع الوعي . كلنا نتذكر ثورة تشرين، كانت ثورة شبابية جماهيرية كاسحة لكنها كانت خالية من الوعي فقد كانت شعاراتها وأفكارها لا تختلف كثيراً عن شعارات وأفكار الناس الذين أفسدوا في البلاد ودمروا البلاد فهي ثورة تحمل عوامل نهايتها وموتها معها ، وهذا ما حصل بالضبط ومع ذلك كان كتاب المنفى يزقون فيها الحياة من دون جدوى .
هذه احدى الملاحظات التي عايشتها مع كتاب المنفى . الملاحظة الثانية ، معظم كتاب المنفى يتناسون بأن الإنسان عندنا طموحاته في الحياة محدودة لا تتعدى ابعد من اليوم الذي يعيشه وهاجس الخوف المتوارث يصاحبه في كل خطوة يخطوها ، فأية أفكار تخرج عن نطاق هذين الامرين ليست لها صدى بل لا يتقبلها المتلقي وينفرها . انا لا أقلل من قيمة الإنسان الذي عاش في هذه الارض ولا من ذكاءه وحرصه على بلده لكنه عاش مئات السنين على هذه الحالة وهو متكيف معها وسقف طموحه الاجتماعي والوطني وقف عند هذا الحد ، أما طموحه الشخصي فأنه واسع وكبير . الملاحظة الأخرى ، وهي الأهم ، جميع المقالات التي ينشرها مثقفوا الاغتراب والمنفى جميلة وقوية وعميقة لكنها لا ترقى الى مستوى التغيير ، كالذي يريد ان يصهر الحديد بدرجة غليان الماء اي بدرجة مئة مئوية وهو يعلم بأن صهر الحديد يحتاج الى درجات مئوية عالية جداً تتجاوز الالاف ، فعلى ماذا يراهن اصحاب المقالات الذين كثر عددهم وعدد مقالاتهم وقل تأثيرهم ؟ مجرد كشف الفساد ، ونقد الواقع ، فالكل يعرف الفساد ويعرف الواقع ، والاكثر من ذلك نفس الفاسدين يعترفون بفسادهم وتدميرهم للبلاد والعباد ولا يترددون بالإشهار .
في كثير من المجتمعات الإنسانية إذا تحدث المثقف ترك بصمته في نفوس الناس ، ففي بضع كلمات يخلق عند الناس الأثر نحو التغيير ، وهذا يعني ليست كل ثقافة هي ثقافة ، وليست كل كلمة هي كلمة ، فالمثقف المغترب الذي هو أمل التغيير لايمكن ان يكون بمستوى التغيير إذا كان كل يوم يكتب بنفس الافكار العقيمة ، المفكرون الذين غيروا المجتمعات الأخرى لم يكتبوا معشار ما يكتبه المثقفون عندنا ولكن كتابات هؤلاء وأفكارهم صارت تدرس في الجامعات والمعاهد ، لماذا ؟ لأنها مقالات وكتابات بمستوى التغيير ، وهذا فرق كبير يجب ان يلتفت اليه كتاب المقالات كي تكون مقالاتهم ذات قيمة ومفعول يذكر . نحن لسنا بسباق لكثرة المقالات لكي يشعر احدنا انه يجب ان يكتب كل يوم ، اعطني مقالاً واحداً كل شهر أشم فيه رائحة الفكر التغييري خير من الف مقال تكتبه يومياً بلا صدى وبلا تأثير . لا أدري ان كان للكتابة إدمان او هوس او استعراض او ماذا يفسر اصحاب كثرة الكتابات التي لا تحمل اية افكار جديدة او أفكار فاعلة تنهض بالأمة من سباتها مثلما فعل مثقفوا الأمم الأخرى . المجتمع بحاجة الى أفكار تحييه تنقله من عالم الظلمات الى عالم النور لا الى أفكار تسليه وتزيد من الكراهية ، انت اليوم تجلس في بلاد الغربة تمتلك مساحة واسعة للتعبير عن الافكار الصحيحة فلماذا تسوفها وتجعل كلماتك أصغر من حجم أفكارك فتجني على نفسك وعلى المجتمع الذي يتأمل منك الخلاص ؟
مشاكلنا ليست مرتبطة بأشخاص بزوالهم تشرق الشمس فقد ظننا ذلك من قبل فأخطأنا الظن ، وسنخطأ من جديد ان بقينا ندور في هذا الفلك . تحية لكل من سعى لنشر الثقافة النظيفة والفكر الصائب وعرف طريقها السهل الى عقول وقلوب الناس .