معظم المهاجرين الى الدول الاوربية او امريكا او كندا او استراليا او اي بلد اخر متمدن ومتحضر ، يقضون الفترة القانونية المحددة للإقامة في ذلك البلد لينالوا بعدها الجنسية ويصبحوا مواطنين رسمياً وأبناء لذلك البلد حسب قوانين البلد الذي هاجروا اليه ، لهم ما للمواطن من حقوق وعليهم ما على المواطن من واجبات ، وهذه هي طبيعة الحياة في المجتمعات المتمدنة التي أعطت الأولوية لحياة وكرامة الإنسان بغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه ، بهذه السهولة يصبح مهاجر الأمس مواطن له حق حمل جواز ذلك البلد ويجول به حول العالم مرفوع الرأس دون ان يعترضه أحد إضافة الى حقه الدستوري في أنتخاب الزعامات السياسية لوطنه الجديد ، لكن رغم حصول المهاجر على الجنسية ورغم شعوره بالالتزام بكل ما له وما عليه ورغم ولاءه للوطن الجديد يبقى يلازمه احساس بأنه ليس مثل ابن البلد الاصلي ، وأنه مازال كأبن بلاده الذي ولد فيه . هذا الإحساس يأتي بسبب عدة عوامل ، منها ، مهما تطورت اللغة التي تعلمها لوطنه الجديد فأن اللهجة تميزه عن ابن البلد الاصلي ، اللون والشكل والدين والعقيدة والعادات والأفكار لا يمكن ان تذوب كلها في الوطن الجديد مهما فعل و ستبقى شاخصة في شخصيته وتركيبته وإذا نساها في لحظة ما فأن أبن البلد الأصلي يحسسه بها ، ويعمد أبن البلد الاصلي بغض النظر عن ثقافته وحضاريته و رقيه والتزامه القانوني يبعث الاحساس عند المهاجر بأنه ليس كأبن البلد وهذا الشعور يلازم الابناء ايضاً بنسبة أقل ولكنه يبقى قائماً حتى عند ابناء المهاجرين . الجاليات الصينية والهندية والافريقية واللاتينية أكثر خبرة ودراية عن حياة المهجر وكيفية التكيف معها ، فقد تعلمت هذه المجتمعات الهجرة الى الدول المتحضرة منذ أكثر من مائتي عام ومازالت تعيش بخصوصية حياة المجتمعات التي قدمت منها ولا اندماج الا بشكل محدود جداً بالرغم من الالتزام القانوني لهذه الجاليات بكل شيء . دساتير البلدان المتحضرة عرفت هذه الحالة وعرفت استحالة اندماج المجتمعات المتنوعة بتركيبتها العنصرية والدينية بعضها ببعض فعمدة على نشر ثقافة الالتزام القانوني للجميع وعدم الإكراه لقبول مجمل ثقافة المجتمع الجديد بذلك استطاع الجميع بالرغم من اختلافاتهم التعايش سوية دون مشاكل . لذلك تجد في هذه البلدان الحضارية يشيرون الى اصل البلد او اصل العرق للمواطن في الاحصائيات الرسمية . من الغريب ان تجد مهاجر يتحدث بأسم وطنه الجديد ويتنكر لوطنه الاصلي او يعيب ذلك رغم انه يعلم ان قانون وطنه الجديد لا يحتم عليه فعل ذلك وقد وصل الامر ( وهنا اتحدث عن بلدنا ) ان اصحاب الجنسية المزدوجة الذين تبوؤا مناصب مهمة عند عودتهم الى بلدانهم التي ولدوا فيها مع الاحزاب التي إنتموا اليها يعبثون ويسرقون ولا يبالون ببلدهم الاصلي أعتقاداً منهم بأنه لم يعد بلدهم هذا ، لأنهم حصلوا على جنسية أخرى وحتى السلوك الاخلاقي والقانوني الذي يلتزمون به في دولهم الجديدة لم يعد له وجود في بلدهم الذي ولدوا فيه . ناهيك ما تجد عند بعض المثقفين المهاجرين من نقد لاذع لكل صغيرة وكبيرة لحياة مجتمعهم الذي تركوه ، وهذا عكس ما نجده عند مهاجري البلدان والمجتمعات اللاتينية والافريقية والاسيوية الذين يسعون بكل السبل ان يفيدون مجتمعاتهم الاصلية بما تيسر من أفكار المجتمعات التي هاجروا اليها عسى ولعل الحياة تصبح متقاربة بين مجتمعاتهم والمجتمعات الاخرى . ليس من الانصاف التنكر لتربة الاباء والاجداد وليس من الاخلاق التنكر لفضائل الاوطان الجديدة فالاخلاق تحتم على الإنسان ان يعطي لكل ذي حق حقه .
المهاجر مازال أكثر من نصفه ابن بلده الذي ولد فيه حتى ولو أمضى عشرات السنين في المهجر ، فأن عمله ومستقبله وحياته وحياة ابناءه اختلطت بحياة المجتمع الجديد وكل شيء أصبح عنده غير قابل للرجعة لكنه يبقى يعاني من الغربة وفقدان الأحبة والوحدانية وهذا الفراغ لا تسده الا رائحة اهله وارضه ، فتراه لا يسمع من الاغاني والموسيقى الا ما قد تعود سماعه منذ ايام الصبا ويحن اليها بشدة ولا يستسيغ الا طعام بلده الاصلي ، ولا يتصرف في داخل البيت الا بنفس طريقته القديمة التي اعتاد عليها فهو لم يتغير منه الا القليل ، وهذا شيء طبيعي وليس عيباً بأن الإنسان يحتفظ بثقافته وطبيعته ثم يتغير بمقدار حاجته للتغيير ، فقد فشل من ذهب ابعد من ذلك والتجارب كثيرة .
المهاجر الذي تخلى عن ثقافته و أندمج بشكل كلي مع الثقافة الجديدة فقد كتب على نفسه الفشل في حياته ، والمهاجر الذي حمل معه ثقافته القديمة و أبى التطلع الى الثقافة التي هاجر من أجلها أيضاً فشل في حياته الجديدة ، فليس المطلوب من المهاجر ان يتغير كلياً ولكن المطلوب منه ان يتغير بنسبة كبيرة تكفي لإن تجعل حياته وحياة عائلته تواكب المتغيرات الإيجابية ، وللأسف الشديد أكثر المهاجرين لم يعرفوا التكييف مع المتغيرات فأرتكبوا حماقة كبيرة بحق أنفسهم وعوائلهم ، فتشتت عوائلهم ودفعوا ثمن عدم المعرفة غالياً ، فالمهاجر عليه أن يبدأ حياة المهجر كضيف ثم تدريجياً يتقرب من طبيعة الحياة الجديدة والمجتمع الجديد لكي يحصل على أكبر قدر من الفائدة العلمية والثقافية والاجتماعية والمادية والاخلاقية التي هي هدف كل إنسان يريد العيش بكرامة وراحة بال .
ليست الغربة ان تغترب عن ذاتك فتصبح الغربة غمة ومرارة بدل ان تكون الغربة نهضة من أجل حياة أفضل وأرقى . القصص التي نسمعها عن ارتقاء بعض العوائل او الافراد الذين اختاروا حياة المهجر تبعث السعادة في النفوس ، والقصص التي نسمعها عن ضياع بعض العوائل أو الافراد الذين اختاروا حياة المهجر خطئاً تصيبنا بخيبة الامل ، ويبقى اساس الإنسان ومعدنه وثقافته هو المعيار الذي يحدد نجاحه او فشله .