لا ريب أن مفهوم ومبدأ المواطنة من نتاج التحولات المجتمعية السياسية المقترن بولادة الدولة الحديثة، وهو وان وكان قديماً ومعهوداً لدى العديد من الحضارات الإنسانية كما عند اليونان والرومان إلاّ أنَّ صيغته المعاصرة قد خرجت عن نطاقها التقليدي إلى حق ثابت في الحياة السياسية والاجتماعية بين الدول ورعاياها، وبذلك يكون مفهومه وفروضه على النقيض حتى من الدول الملكية والأرستقراطية، فالمواطنة حصيلة ترسيخ مفهوم الدولة الحديثة وما تقوم عليه من سيادة لحكم القانون والمشاركة السياسية الكاملة في ظل دولة المؤسسات.وفي تقديرنا أن الوطنية هي الإطار الفكري النظري للمواطنة. بمعنى أن الأولى عملية فكرية والأخرى ممارسة عملية. ومفهوم المواطنة بقيَ بدائيا حتى عصر التنوير، حين قام رموز عصر التنوير من أمثال هوبز ولوك وروسو ومونتسكيو وغيرهم من الفلاسفة بطرح مفهوم آخر للمواطنة يقوم على العقد الاجتماعي ما بين أفراد المجتمع والدولة أو الحكم، وعلى آلية ديمقراطية تحكم العلاقة بين الأفراد أنفسهم بالاستناد إلى القانون الذي يتساوى أمامه الجميع. ومن أجل منع استبداد الدولة وسـلطاتها نشأت فكرة المواطن الذي يمتلك الحقوق غير القابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من جانب الدولة، فهذه الحقوق هي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين، وحقوق سـياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وحقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية، وحرية الاعتقاد والتدين.
ففي السياق الغربي للمواطنة أشارت دائرة المعارف البريطانية (بأنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة)، وهي بذلك تضمن للمواطن التمتع بالحقوق تجاه الدولة، كما تخوِّل له امتيازات خارج دولته. “ولكي تكون فكرة المواطنة واضحة لدى النّاس دعا بعض المفكرين الأوروبيين آنذاك إلى توعيّة المواطنين ولو على نحو إجمالي بالواجبات المدنيّة التي تتطلبها المواطنة، ومنها الالتزام بالمحافظة على الوضع الراهن، والاعتراف بالحكومة القائمة، ومقاومة الدّيماغوجيّة، والانضباط ومعرفة القوانين، لكي تحصل عمليّة الانضباط والتقيّد ضمن سلوك وتوجّه معين”. وأقترن مبدأ المواطنة بحركة نضال التاريخ الإنساني من أجل العدل والمساواة والإنصاف. وكان ذلك قبل أن يستقر مصطلح المواطنة وما يقاربه من مصطلحات في الأدبيات السياسية والفكرية والتربوية، وتصاعد النضال وأخذ شكل الحركات الاجتماعية منذ قيام الحكومات الزراعية في وادي الرافدين مروراً بحضارة سومر وأشور وبابل وحضارات الصين والهند وفارس وحضارات الفينيقيين والكنعانيين.
وفي مقابل الجدل القائم لضمان مجتمع آمن ومستقر من خلال مواطنة عادلة ومسؤولة، يطرح المذهب الاشتراكي أنه لا معنى للحرية الفردية في ظل صراع المصالح الخاصة للطبقة الرأسمالية وما جدوى الحرية المضمونة بالدستور إذا كان الإنسان لا يجد الحماية من المخاطر والابتزاز بل وما فائدة حرية العمل إذا كان المواطن يترك فريسة للبطالة مما يضطره إلى التنازل عن حريته وكرامته ليواجه شروطاً حياتية صعبة. والقراءة هي مفتاح الثقافة، والثقافة هي ثمرة العلم، وبالعلم والمعرفة والثقافة تتكون الشخصية الإنسانية وتتحدد صفاتها وتتعمق أهدافها، وبعد أن يعطي الإسلام الإنسان المفتاح إلى المعرفة، يدفعه بقوة نحو العلم، ويوقظ حواسه إلى النظر، وينبه ضميره إلى اليقظة، ويحرك فكره إلى التأمل والتدبر، ثم ينتقل به إلى مرحلة التجرد؛ ولهذا يدعوه إلى التفكير البعيد عن المألوف والموروث، ولا يجعل سبيل فكره ماشيًا في طريق المحاكاة، وخطة التقليد لما كان عليه الأولون، أو لما تلقاه عن الآباء والأجداد، أو لما تعارف عليه الناس وآمنوا به وألفوه، وقد عاب القرآن الكريم على الأمم السّابقة ما وقعوا فيه من هذا البلاء، وأشار إلى ذلك في أكثر من موضع، مثل قوله في حق أتباع شعيب (عليه السلام) الذين ناقشوا رسولهم على أساس نظرية متابعة الآباء؛ فقالوا له: {أَصَلواتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (سورة هود: 87)، واستنكر القرآن نظرية الاستمرار التي جادل قوم هود نبيهم عليها، فقالوا له: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُوْمِنِينَ} (سورة هود: 53).وأهمية الترابط والتواصل، والتعاون والتزاور، والتحاب والود بين أبناء الوطن، وأن قوة الوطن في ترابط المجتمع وتماسكه، وتمسكه بعقيدته، وأن ضعفه في تفككه وانتشار الخلافات والخصومات والأمراض الاجتماعية المختلفة، وأن الله – تعالى – أمرنا بالاعتصام والأُخوَّة والتواصل، وذكرت في ذلك آيات وأحاديث كثيرة جدًّا، ثم ذكرت الأسباب التي تزيد الترابط وتعمق الأُخُوة. وعلى الرغم من اختلاف الآراء حول الانتماء ما بين كونه اتجاهاً وشعوراً وإحساساً أو كونه حاجة أساسية نفسية – لكون الحاجة هي شعور الكائن الحي بالافتقاد لشيء معين، سواءً أكان المفتقد فسيولوجياً داخلياً ، أو سيكولوجياً اجتماعياً كالحاجة إلى الانتماء والسيطرة والإنجاز- أو كونه دافعاً أو ميلاً، إلا أنها جميعاً تؤكد استحالة حياة الفرد بلا انتماء، ذاك الذي يبدأ مع الإنسان منذ لحظة الميلاد صغيراً بهدف إشباع حاجته الضرورية ، وينمو هذا الانتماء بنمو ونضج الفرد إلى أن يصبح انتماءً للمجتمع الكبير الذي عليه أن يشبع حاجات أفراده . ولا يمكن أن يتحقق للإنسان الشعور بالمكانة والأمن والقوة والحب والصداقة إلاّ من خلال الجماعة ، فالسلوك الإنساني لا يكتسب معناه إلاّ في موقف اجتماعي، إضافة إلى أن الجماعة تقدم للفرد مواقف عديدة يستطيع من خلالها أن يظهر فيها مهاراته وقدراته ، علاوة على أن شعور الفرد بالرضا الذي يستمده من انتماءه للجماعة يتوقف على الفرص التي تتاح له كي يلعب دوره بوصفه عضواً من أعضائها.
وفي العالم العربي اختلفت أطياف الفكر كذلك ليس فقط حسب الاختلاف المنهجي القطري بل أيضاً في داخل القطر الواحد باختلاف الأيديولوجيات التي تعاقبت بتعاقب مراحل الحكم وإدارة الدولة في الحقب الزمنية المختلفة، مما أوجد أنماطاً متعددة من الوعي لدى الشعوب العربية تداخلت أحياناً وتصادمت أحيانا ً أخرى ، وأثرت على دوائر الانتماء مما أدى إلى العديد من الانعكاسات السلبية على مبدأ المواطنة ذاته، فضلاً عن ممارساتها من قبل الأفراد ومع تغير طبيعة العالم المعاصر من حيث موازين القوى ، وسيطرة القطب الواحد، وظهور التكتلات السياسية والاقتصادية ، وتنامي البنى الاجتماعية الحاضنة للفكر الليبرالي وعبوره للحدود الجغرافية والسياسية على الجسور التي مدتها تكنولوجيا الاتصال ، والتركيز على خيارات الفرد المطلقة كمرجع للخيارات الحياتية والسياسية اليومية في دوائر العمل والمجتمع المدني والمجال العام ، مع هذه التغيرات العامة، بالإضافة إلى التغيرات الخاصة التي تحيط بالعرب والمسلمين شهد مفهوم المواطنة تبدلاً واضحاً في مضمونه واستخداماته ودلالاته والوعي الفردي بمبادئه وما يرتبط به من قيم وسلوكيات تُمثِّل معول هدم أو بناء لواجهة المجتمع وهيكل الدولة.
وفي تقديرنا ينبغي ألاّ تصاغ الوطنية على أنها عملية “حق وواجب “وذلك أن هذا الطرح لا يسمو إلى كون الوطنية انتماءً طبيعيّاً مغروساً في الإنسان يستثير الإنسان للعمل والغيرة على بلده دون الحاجة (ابتداءً) إلى أن يكون ذلك متطلب قانوني أو مشروع سياسي. ذلك أن الالتزام الوطني الأخلاقي هو الفاعل والمفعِّل لمنظومة الحقوق والواجبات. كما أن المنظور الديني يجعل ذلك أكثر كمالاً وتماماً وبالتالي أجراً. · يفضل أن تكون جماعة الانتماء بمثابة كيان أكبر وأشمل وأقوى لتكون مصدر فخر واعتزاز للفرد، وأن يكون الفرد العضو في جماعة الانتماء في حالة توافق متبادل معها ليتم التفاعل الإيجابي بينهم. · يعبّر عن جماعة الانتماء بالجماعة المرجعية ، تلك التي يتوحد معها الفرد ويستخدمها معياراً لتقدير ألذات ، ومصدراً لتقويم أهدافه الشخصية ، وقد تشمل الجماعة المرجعية كل الجماعات التي ينتمي إليها الفرد كعضو فيها. · وأن يثق الفرد ويعتنق معايير ومبادئ، وقيم الجماعة التي ينتمي إليها ومن ثم يحترمها ويلتزم بها. والفرد عليه نصرة الجماعة التي ينتمي إليها، والدفاع عنها وقت الحاجة والتضحية في سبيلها إذا لزم الأمر مقابل أن توفر الجماعة له الحماية والأمن والمساعدة. إن من أبرز سمات المواطنة أن يكون المواطن مشاركاً في الأعمال المجتمعية، والتي من أبرزها الأعمال التطوعية فكل إسهام يخدم الوطن ويترتب عليه مصالح دينية أو دنيوية كالتصدي للشبهات وتقوية أواصر المجتمع، وتقديم النصيحة للمواطنين وللمسئولين يجسد المعنى الحقيقي للمواطنة.
فالمواطنة الحقيقية لا تتعالى على حقائق التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولا تمارس تزييفاً للواقع، وإنما تتعامل مع هذا الواقع من منطلق حقائقه الثابتة، وتعمل على فتح المجال للحرية والانفتاح والتعددية في الفضاء الوطني. فالأمن والاستقرار والتحديث، كل ذلك مرهون إلى حد بعيد بوجود مواطنة متساوية مصانة بنظام وقانون يحول دون التعدي على مقتضيات المواطنة الواحدة المتساوية ومتطلباتها. و تختلف الدول عن بعضها البعض في الواجبات المترتبة على المواطن باختلاف الفلسفة التي تقوم عليها الدولة، فبعض الدول ترى أن المشاركة السياسية في الانتخابات واجب وطني، والبعض الآخر لا يرى المشاركة السياسية كواجب وطني. .