واحدة من الظواهر الغريبة التي يعيشها غالبية الناس وفي مختلف بقاع الارض هو عدم القدرة على التغيير ، تغيير الأفكار أو تغيير المعتقدات أو تغيير الرؤى حتى وإن توفرت الادلة الدامغة على بطلان الأفكار المحشوة في الأدمغة ، فمثلاً أحدهم يحب صدام حسين ، أي ان صدام حسين في مخيلته رجل العدالة والامان والقوة وايامه كانت ايام العز والخير ، هذا الشخص لا يستطيع النظر الى الجانب الثاني من حقيقة حكم صدام حسين ، وهو جانب الحروب المجنونة وهلاك معظم شباب العراق دون مقابل ، وجانب استخدام السلاح الكيمياوي ضد الشعب الكوردي ، وجانب الديكتاتورية المقيتة وقتل المعارضين ، وجانب اعطاء المصري والاردني والسوداني وغيرهم من العرب القيمة والقدسية فوق قيمة الإنسان العراقي ، ولم ينظر الى المقابر الجماعية ولا الى ملايين اليتامى ، ولا الى الكورد الفيلية الذين هجروا عنوة من ديارهم بعد ان سلبوهم اموالهم وممتلكاتهم . مثل هذا الإنسان يحب صدام لأنه ليست له القدرة ان يرى الجانب الاخر من صدام حسين بسبب عجزه او بسبب جهله او بسبب حقده على من اختلف معه ، هذه الحالة تنطبق مع أحباب بشار الاسد وأحباب الولي الفقيه واحباب بوتين واردوغان وغيرهم من رموز هذا الجيل او الأجيال التي سبقت ، لذلك تجد الإنسان العاقل المثقف لا يكون حبه بإفراط ولا كراهيته بإفراط لأنه يعلم بأن الذي يواليه فيه عيوب مهما طالت لحيته وكبر مقامه ، وهناك من لا يطيق عيوبه ، وان الذي يكرهه فيه محاسن وهناك من يحبه ، فلا يقسو عليه بالكراهية ولا يحبه حد الجنون ، الإفراط في الحب او الولاء او الكراهية من علامات الجهل وعلامات الحقد . الحقيقة انا ضربت هذا المثل بشخص صدام حسين لأننا وبصراحة مجتمع الحب والولاء والحقد والكره فقط للرموز ولا يوجد في قواميسنا كراهية للأفكار التي يحملها هؤلاء الاشخاص الرموز ولا حب للأفكار التي يعتنقها هؤلاء الرموز ، فمشكلتنا على طول التأريخ هو الرمز وليس الفكر أو السلوك ، تصوروا انه مجرد ان يكتب احدنا مقالاً فيه نقد لجهة او شخص معين بأدلة علمية منطقية ترى احباب وعشاق تلك الجهة او تلك الشخصية يصدون عنك صدودا دون النظر الى موضوعية الكلام وكأنك تحاربهم ، مع العلم أنت وأنا نبذل جهودنا لإيصال المعلومة الصحيحة والتصور الصحيح إليهم . ان اصحاب المعرفة يتقبلون الرأي المخالف ويناقشونه او يكتبون وجهة نظرهم بكل أدب دون ان يمسهم الغضب والانفعال ، هذه الظاهرة ليست شائعة في مجتمعاتنا فقط بل تجدها في مجتمعات كثيرة حتى في المجتمعات المتطورة .
ان عملية تغيير عقول الناس الثابتة المتقوقعة على حالة واحدة أصبحت شبه مستحيلة فقد لا حظت بأن غالبية الناس تستمع وتستمتع فقط مع ما يتناسب وافكارها حتى وان كان هذا المناسب هو سم وكذب ودجل وافتراء ، ولا يعطون لأنفسهم الفرصة للإطلاع على ما يدور عند الرأي المخالف ، وإذا استمعوا او قرأوا ما يخالف توجهاتهم سيصيبهم الندم والالم وكأنهم ارتكبوا الكبائر من الذنوب . فأنت في أي مكان وفي أي زمان تجد النقيض لك ، وقد يكون هذا النقيض متعلم فيعرف كيف يستوعب افكارك ومفاهيمك وقد يكون غير متعلم لا يجيد معنى احترام الرأي الأخر فتنطلق منه سهام الحقد والكراهية ، حتى وأن كنت أنت مخطئاً فقد وهبك الصواب بسوء طريقته ، فليس الصواب فقط بما تقول بل الصواب بما تقول وبما تفعل . نحن محاطون ومن كل الجهات بشخصيات ورموز تمثل افكار ورؤى محيطة بنا وهي التي جعلت الواقع بهذا الشكل الذي نراه ، منها لها تأثير سلبي ومنها إيجابي على حياتنا ومنها قليلة التأثير ، فلابد ان تكون من ضمن اطروحاتنا المرور بذكر سلبيات او إيجابيات هؤلاء الرموز ، فهل هذا يعني اعلان الحرب ؟ إذا كان كل منا يضع خط أحمر للرمز الذي يحبه ، فمن أين جاءتنا كل هذه المصائب والويلات والتخلف ؟ والاغرب من ذلك بما ان الرمز او الشخص او القائد الذي احبه او اعبده هو نفسه يحب ويتقرب من رمز أخر لدولة أخرى فأن ذلك الرمز البعيد سيكون إيضاً خط أحمر ، هذا ما يفسر عدم تقبل كثير من الناس نقد الرئيس الصيني او الرئيس الروسي او الامريكي او التركي او حتى الإسرائيلي . فتجد من يحاول الطعن بك فقط لأنك حاولت إظهار عيوب ذلك الخط الأحمر البعيد .
الإنسان المثقف لا يقف عند رغبات وميول الاخرين ، المثقف يحمل رسالة اخلاقية يفترشها للطيبين الذين همهم الاول بلدهم وشعبهم ومستقبل اجيالهم ولا يهمه ما آلت اليه عقول الناس من فشل وانحراف ، وإلا هل من عاقل يصدق بأنني أنتقد رجل دموي إرهابي مثل بوتين وأظهر مساوىء افعاله في تدمير الشعب الاوكراني والروسي والشعب السوري والكورد من قبل وخلق ازمة وقلق لشعوب العالم أجمع ليرد على كلامي من هو جاهل لكل افعال بوتين الاجرامية فقط لأن ولي أمره يحب بوتين وتربطه علاقة طيبة بالبوتين ، يعني ان الحاقد لا ينظر الى كلامي بل ينظر الى النقيض ممن ذكرت ، وينظر الى الجهة التي يواليها وماهي موقفها . وهكذا يفعل افراد القطيع الذين ينعقون مع كل ناعق ، ، هذه جهالة وامراض نفسية وعقلية يجب علاجها ويجب التحرر منها ، فأن ذلك هو السير في طريق الهلاك ، يجب علينا استيعاب كل كلام مطروح والابتعاد عن المناكفات العقيمة ، فالثقافة والمعرفة هي أجمل شيء في الحياة وأطيب غذاء للعقول ، فلنجعلها فرصة لتغذية عقولنا بأنواع المعرفة والاطلاع على جميع الاراء تزيد من قوة الرأي وتحيي فينا طعم الإنسانية وتبعدنا عن الكراهية والبغضاء ، ليس هناك اي مبرر لردة فعل مؤثرة ، قد يكون الكلام المطروح فيه الصواب او فيه الخطأ فليس بيننا من هو معصوم عن الخطأ ، هي مجرد معلومة تزيد من الرصيد المعرفي ، فأن كان الكلام صائباً فهو خير وكسب كبير ، وأن كان الكلام خطئاً وغير صادق ، فأنه يزيد من خبراتنا بمعرفة توجهات الناس ، ولا تستوجب في كل الأحوال الامتعاض والانفعالية ، قد يجد أحدنا الصدق والحقيقة في لسان عدوه فما عليه سوى ان يحترم هذا اللسان الذي هو لسان عدوه ، لا ان ينبذه ، فليس من اللياقة الاخلاقية اللجوء الى الكلمات المبتذلة للتعبير عما يجول في نفسه ، فأنه استسلام للجهل ونقص في المعرفة .
الثقافة والمعرفة واحترام الرأي الأخر والقدرة على التغيير عندما تواجه الحقائق وجه لوجه ، وعدم الإساءة لكرامة الناس والابتعاد عن المفردات السوقية النابية ، هذه الامور ليست موهبة فطرية لكي نتحسر عليها إذا افتقدناها بل هي تربية بيتية واجتماعية وتربية للذات ، فقط صاحب الحظ التعيس من تنقصه هذه الاشياء التربوية في مثل هذا الزمن وفي مثل هذا الواقع .