تُعد الدولة القانونية السمة الأساسية للمجتمعات المعاصرة، التي يتم فيها تنظيم العلاقات والروابط بين أفرادها الذين ارتضوا العيش المشترك بينهم في ظل نظام قانوني يُجَسِّد الحق والعدالة، ويهدف إلى تحقيق المصالح العامة والأهداف الجماعية والغايات المشتركة، وإذا كانت الدولة هي الإطار الذي يتحقق داخله المظهر السياسي لهذه المجتمعات، وهي مجتمعات سياسية بالدرجة الأولى، فإن القانون هو أداة هذه الدولة ووسيلتها لكفالة تحقيق المقاصد والأغراض العامة للمجتمع، لذلك يذهب الفقه إلى أن المجتمعات في الدول الحديثة على وجه الخصوص لا تقوم دون قانون، ومفهوم القانون الحقيقي أنه الحد الفاصل ما بين إطلاق السلطة ومتطلبات حقوق الإنسان، وغايته الرئيسية استقامة التعاطي بين السلطة والمجتمع. اختلفت الدول في تحديد أساليب الرقابة على دستورية القوانين رغم اجماعها جميعاً على أهمية الرقابة بما تكفل ضمان احترام الدستور والقوانين من قبل السلطات العمومية فهناك من أسندها إلى هيئة سياسية مستقلة تختلف تسميتها من دولة إلى أخرى، وهناك من أوكلها إلى الهيئات النيابية، وهناك من أوكلها إلى المحاكم. فالسمو الموضوعي للدستور هو نتيجة طبيعية لما يتضمنه من تنظيمٍ لمختلف السلطات في الدولة وتحديد اختصاصاتها وعلاقاتها مع بعضها بعضاً، أما سموه الشكلي فمستمد من صدوره عن هيئة تأسيسية تعد أعلى من أية هيئة يقيمها الدستور لأنها تمثل الإرادة الشعبية وتنطق باسم الأمة. لاشك إن الحقوق والحريات العامة تحتل قيمة اجتماعية رفيعة في النفوس باعتبارها أسمى القيم الإنسانية إن لم تكن اسماها على الإطلاق، فهي ترتبط بهم وجوداً وعدماً، فأصرت البشرية في أطوارها المختلفة على الإيمان والتمسك بها، كما إنها من مقومات الإنسان نفسه ولا يمكن أن تكون ترفاً، إذ لابد من صيانتها، فجميع الثورات والانتفاضات التي قامت بها الشعوب ضد تعسف السلطات الحاكمة، كان الهدف منها انتزاع هذه الحقوق والحريات ومن ثم فانه في النتيجة تم تسطيرها في نصوص دستورية وقانونية تكفل ممارستها وحمايتها.
وقد عرَّف ماكس فيبر السلطة السياسية بأنها: “هي الفرصة المتاحة أمام الفرد أو الجماعة لتنفيذ مطالبهم في مجتمع ما” في مواجهة من يقفون حائلًا أو هي: “المقدرة على فرض إردة فرٍد ما على سلوك الآخرين”. أمام تحقيقها أما بالنسبة للسلطة السياسية في حد ذاتها فقد وردت لها تعريفات مختلفة، ويمكن من خلال النظر في جوانبها وعناصرها المشتركة الوصول إلى أنها جميعا ترمي إلى بيان مقصود واحد وان اختلفت العبارات المستخدمة في هذا المعنى، أو ركز كل واحد منها على نقاط معينة. ويمكن القول أن السلطة السياسية هي عبارة عن نوع من الإقتدار الممنوح لجهة عليا، ويتسع نطاقها إلى ما هو أبعد من الفصائل والمجموعات الخاصة والصغيرة وتلقي بظلالها على المجتمع برمته، ومن جملة التأثيرات الناجمة عنها، حق وضع القوانين والمقررات الاجتماعية، وتطبيق القانون ومعاقبة من لا يخضع للقانون، بهدف حماية الحقوق ودرء الإعتداءات الخارجية، وعلى المجتمع كله إطاعة مثل هذه السلطة.
لقد ارتبط مدلول القانون الدستوري زمنًا طويلًا في فرنسا بأفكار “جيزو” وبالأهداف التي كان قد استهدفها بإنشائه لكرسي القانون الدستوري في كلية الحقوق، فنظرًا لأن جيزو كان من أعوان الملك لويس فيليب، ومن أول المؤيدين لسياسته والعاملين علي تأييد حكمه، فكان يهدف بإنشائه لكرسي القانون الدستوري بجامعة باريس سنة 1834، إلي شرح وتفسير الوثيقة الدستورية التي اعتلى الملك لويس فيليب مقاليد السلطة وحكم فرنسا علي أساسها، وذلك كله حتى يكسب ود الرأي العام إلي جانب النظام الدستوري الجديد الذي يتضمنه دستور 1830 والذي يقوم علي النظام الملكي النيابي الحر، وهكذا ربط جيزو بين النظام الدستوري الجديد وبين دستور فرنسا الصادر سنة 1830 حتى أصبحت الدراسة تدور في فلك ذلك الدستور. ويُعد الدستور هو القانون الأساسى الأعلى الذى يرسى القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ويحدد السلطات العامة، ويرسم لها وظائفها ويضع الحدود والقيود الضابطة لنشاطها، ويقرر الحريات والحقوق العامة، ويرتب الضمانات الأساسية لحمايتها.
وسمو الدستور يُراد به إن النظام القانوني للدولة بأكمله يكون محكوماً بالقواعد الدستورية، إن آية سلطة من سلطات الدولة لا يمكن أن تمارس إلاّ السلطة التي خوَّلها إياها الدستور وبالحدود التي رسمها. ويعتبر مبدأ السمو من المباديء المسلَّم بها في فقه القانون الدستوري حتى في حالة عدم النص عليه في صلب الوثيقة الدستورية. والمصدر الرئيسي للقواعد الدستورية في دول الدساتير المدونة الوثيقة الدستورية توضع من قبل هيئة خاصة يطلق عليها السلطة التأسيسية. وتقوم السلطة التأسيسية الأصلية بوضع دستور لدولة لا يوجد فيها دستور أصلا أو لم يعد فيها دستور وبالتالي فهي سلطة أصلية لأنها لا تستند في عملها إلى نصوص وأحكام دستور سابق على وجودها وهي تتمتع بصلاحيات مطلقة في هذا المجال .إذا كانت السلطة التأسيسية الأصلية لا تتقيد بالنصوص التي تحظر التعديل، فلا بد من توضيح متى تعمل كل من السلطة التأسيسية الأصلية والمنشأة وتبيِّن دور كل منهما، فما الفائدة من تقييد السلطة التأسيسية المنشأة إذا يتم توضيح ذلك(1) . واذا أخذا بهذا الاتجاه والقول أن تعديل النصوص التي حرَّم الدستور مراجعتها يكون عن طريق السلطة التأسيسية الأصلية، هذا الأمر يمكن أن يصبح قائم لكن في حالة سقوط الدستور القديم، وهنا لا نكون أمام تعديل دستوري بل وضع دستور جديد. ويتم وضع الدستور عن طريق توافق إرادة الحاكم مع إرادة ممثلي الشعب على قبول الوثيقة الدستورية واحترامها فيكون الدستور ولد نتيجة تلاقي هاتين الإرادتين مما يعني عدم أحقية أي من الطرفين بالانفراد بإلغاء الدستور أو سحبه أو تعديله. والقانون الدستوري شأنه شأن بقية فروع القانون الأخرى له مصادر يستقي منها أحكامه من المصدر التاريخي, وهو الأصل التاريخي الذي أخذ منه القانون الدستوري أحكامه، مثلًا إن القانون الروماني هو المصدر التاريخي للقانون الفرنسي. ومن الأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير أسلوب الإستفتاء التأسيسي ويعرف بأنه الاستفتاء الذي ينصب على اقرار دستور الدولة او تعديله ويتمثل في عرض مشروع الدستور او التعديل بعد اعداده على التصويت الشعبي للموافقة او الرفض، وايضا تعود فكرته إلى مبدأ السيادة الشعبية، كما يعتبر الاستفتاء من اكثر الاساليب المتبعة حديثاً. ومن المواضيع المهمة والمترابطة سياسياً وقانونياً هو القانون الدستوري، بحيث أن هذا الموضوع هام للغاية في تنظيم النظم السياسية للدول والعلاقة بين السلطات في داخل الدولة، مثل تنظيم الحريات والحقوق والواجبات الأساسية، كل هذا يعبّر عنه بدستور. والقواعد الدستورية تبين وتنظم من ناحية طريقة ممارسة السلطة في الدولة، وهي من ناحية أخرى تبين وتحدد الفلسفة والأساس الأيديولوجي الذي يقوم عليه النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة، ومن هذا المنطلق يجب أن يكون نشاط الحكّام وهيئات الدولة المختلفة محكوماً بذلك الأساس في كل ما يصدر منه من قوانين وأنشطة مختلفة، لأن خروج الحكام وهيئات الدولة عن الأساس النظري للقواعد الدستورية يعتبر هدفاً لسند وجود تلك الهيئات وللأساس القانوني لاختصاصها وبالتالي يعتبر مساساً بجوهر الدستور وانتهاكا لسموه الموضوعي أو المادي. والملاحظ إن السمو الموضوعي للدستور لا يقتصر على الدستور الجامد، بل يظهر كذلك في الدستور المرن. ذلك لأن المشرع العادي وان كان يملك حق تعديل نصوص الدستور المرن بنفس إجراءات تعديل القانون العادي، إلا أنه ملزم دائماً باحترام الأساس النظري الذي يقوم عليه الدستور.
ولاشك أن تحديد مضامين الحقوق والحريات منوط بالمشرع لكن تحت الرقابة المباشرة للقاضي الدستوري فإذا ما ضيَّق المشرع من نطاق حق أو حرية وجاء تنظيمه قاصراً كان محلاً لرقابة القضاء الدستورى ، ذلك أن الدستور يكفل لكل حق أو حرية نصَّ عليها الحماية من جوانبها العملية و ليس من معطياتها النظرية ، وتتمثل هذه الحماية في الضمانة التي يكفلها الدستور لحقوق المواطنين وحرياتهم والتي يعتبر إنفاذهما شرطاً للانتفاع بها في الصورة التى تصورها الدستور نطاقاً فاعلاً لها. وهذه الضمانة ذاتها هى التى يفترض أن يستهدفها المشرع، وأن يعمل على تحقيق وسائلها من خلال النصوص القانونية التى ينظم بها هذه الحقوق وتلك الحريات، وشرط ذلك بطبيعة الحال أن يكون تنظيمها كافلاً لتنفسها فى مجالاتها الحيوية ، وأن يحيط بكل أجزائها التى لها شأن فى حماية قيمتها العملية .(2) وضمان التمتع بها على أوسع نطاق.
وليس من الضروري أن تقتصر كتابة الدستور على رجال القانون، لأن الأمر هنا يتعلّق بطريقة الحكم وبأمور عملية أخرى. و”لكي ينفذ التشريع إلى الأعماق وجب سماع صوت المجتمع”. حيث يمتلك الشعب اليوم له من الوسائل ما يكفيه لتبليغ صوته للحكام، ومن عقلنة تصرّف الحاكم عبر الإعلام والانترنت وغيرها من الوسائل. مع تأكيد أن تكون التوطئة والمباديء الأساسية للدستور محل توافق داخل المجلس وموضع تأييد من خارجه. مع وجوب ترك قطاعات معيّنة خارج الحسابات السياسية، منها بالخصوص الوظائف الإدارية السامية، والقضاء، والإعلام.
وللدولة أهلية الالتزام واكتساب الحقوق والتعاقد وتوقيع المعاهدات والاتفاقيات وإقامة العلاقات الدبلوماسية وهي تملك حق التقاضي كما أن لها ذمة مالية مستقلة. ولما كانت الدولة شخصا معنويا فهذا يعني أنها لا تستطيع أن تباشر سلطاتها بذاتها لذلك يعبّر عن إرادة الدولة ويتولى كل مظاهر السلطة فيها أشخاص طبيعيون. والدولة تتمتع بالسيادة الدستورية والقانونية أي أنها تملك سلطة إصدار الدستور والقوانين .وبما أن للدولة شخصية قانونية مستقلة عن شخصية الأفراد فإنه يوجد انفصال بين الدولة كصاحبة السلطة والسيادة وبين شخص الحاكم.
ويترتب على مبدأ السمو المادي للدستور عدة نتائج مهمة، منها: أن القواعد الدستورية ملزمة لجميع هيئات الدولة وأن أي نشاط يكون مخالفاً لهذه القواعد لا يتمتع بأي أثر قانوني لأنه يمس مبدأ المشروعية الذي يعني وجوب احترام القوانين العادية الصادرة عن السلطة التشريعية والالتزام بها وضرورة مطابقة تلك القوانين للنصوص الدستورية. وبما أن الدستور هو مصدر جميع السلطات العامة في الدولة، فهذا يعني أن هذه السلطات (رئيس دولة، مجالس تشريعية إلخ…) لا تمارس حقاً شخصياً تتصرف به كما تشاء، وانما تمارس وظيفة تحددها النصوص الدستورية وتبين شروطها ومداها، وينتج عن ذلك ان هذه السلطات لا تستطيع تفويض غيرها في ممارسة اختصاصها إلا في حالة إباحة الدستور للتفويض بنص خاص وذلك عملاً بالمبدأ الذي يقول: (الاختصاصات المفوضة لا تقبل التفويض). هذا وان مبدأ سمو الدستور لا ينتج أثره القانوني ما لم تنظم وسائل تكفل احترامه، أي بتنظيم الرقابة على دستورية القوانين. ولا يمكن تنظيم هذه الرقابة ما لم يتحقق للدستور السمو الشكلي بجانب السمو الموضوعي.
وبما أن القانون الدستوري فرع من القانون العام، والقانون العام هو قانون الدولة، سواءُ تعلَّق الأمر بعلاقات الدولة مع دول أخرى، أو يتعلق بعلاقات الدولة مع المحكومين. فان مسألة الإتفاقيات الدولية يجب ان لا تؤخذ على عواهلها وان لا يتم إطلاق الأحكام جزافاً دون التحقيق والتمحيص الدقيق بناءً على معلومات عامة أو على تشوه معرفي قد يؤدي الى لبس عام في التعامل مع هذه الاتفاقيات. فالاتفاقيات التي صدرت بالجريدة الرسمية صدرت مستندة الى قرار مجلس وزراء وفي ديباجة القرار ومقدمة النشر في الجريدة الرسمية كما تم الاشارة اليه كان الهدف والغاية من النشر دخولها حيز النفاذ على الصعيد الوطني، فهذا إجراء دستوري يستند الى نصت المادة (61) الفقرة رابعا من الدستور العراقي لعام 2005 “تنظيم عملية المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية بقانون يُشَرَّع بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب”.
———–
.(1 -أحمد سعيفان، الأنظمة السياسية والمبادئ الدستورية العامة، منشورات الحلبي، 2008 ، ص 94
2-د. سليمان الطماوي: النظرية العامة للقرارات الإدارية ، ص 33