تَغيير النظام السياسي العراقي في عام 2003 أدى إلى تحلّل السياسة الخارجية العراقية من دائرة المركزية والتفرَّد بالسلطة ,وتم إعادة هيكلة الدولة العراقية بمؤسساتها السياسية وقيام سلطة تشريعية وحكومة منتخبة وقضاء مستقل وتَعدِّد مراكز القوة المؤثرة في الساحة السياسية متمثلة بالأحزاب السياسية والنخب السياسية والثقافية والدينية المختلفة والمنظمات المدنية والنشطاء السياسيين وحرية الاعلام والفضائيات والتظاهر السلمي لتحقيق مشاركة سياسية سليمة لمجموع الرؤى المجتمعية مما وسَّع من قاعدة البيانات الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية العراقية التي تتقيَّد بمعطيات الأوضاع الداخلية للبلاد ومتغيرات النظام السياسي، لاسيّما وأنَّ أي تغيير على هذين العاملين سيؤثر على حرية حركة العراق على الصعيد الخارجي، لهذا وجدت الدولة العراقية نفسها بمواجهة العديد من التحديات سواءً الداخلية او الإقليمية او الدولية.
وخـلال السـنوات التــي أعقبـت الاحــتلال الأميركـي فـي عــام ٢٠٠٣ شـهد العــراق الكثيـر مــن المتغيـرات الداخليــة والتحــولات الجذريــة، وكـذلك البيئــة الاقليميــة والدوليــة شــهدت هـي الأخـرى تحــولات كبيـرة وكـان التعامـل مـع مـا يجري فـي العـراق يمثـّل أحـد الثوابـت فـي سياسـات تلـك الـدول التـي وجـدت نفسـها فــي بعـض الأحيــان تتصــرف وفـق ردود أفعــال قـد لاتكــون محســوبة أو ضـمن بيئــة ضــاغطة بشكل كبير. حماية السيادة الإقليمية ودعم الأمن القومي والحفاظ على وجودها، والعمل على تدعيم أمنها بأقصى ما تسمح به القدرات والطاقات المتاحة لديها سواءً ما تعلق منها بقوتها الذاتية أو بهذه القوة مضافاً إليها جانب من قوة الدول الأخرى، ويُفسِر هذا الاعتبار حرص الدول على تدعيم أمنها القومي تحت أي ظرف وبكل ما يتطلبه هذا الدعم من امكانات وتضحيات، جانباً هاماً من الأسباب التي تدعو الدول إلى الدخول في حروب ضد بعضها.أنَّ بناء الثقة مع الشعوب وتأكيد أواصر الصداقة مع الدول الاخرى والعمل على تحقيق المصالح المشتركة ومراعاة الشرعية الدولية والالتزام بالمعاهدات والقوانين من شأنه أن يزيد من فرص التفاهم والتعاون البنّاء من اجل تطمين جميع الاطراف. ويحاول العراق بناء تشكيلة المصالح المشتركة في علاقته الخارجية، للإسهام الفعّال في حل الأزمات الإقليمية والدولية، ومكافحة الإرهاب، والجريمة المنظمة، ووجود قوات التحالف الدولي في العراق بما يحفظ المصالح العليا للعراق، ويُحقق تطلعات شعبه، وبالتالي ملاحظة أن البرامج الحكومية المختلفة لجميع الحكومات ما بعد إبريل/نيسان 2003 تؤكد على المباديء الدستورية.
والسياسة الخارجية منهج للعمل يتَّبعه الممثلون الرسميون للمجتمع القومي بوعي من أجل إقرار أو تغيير موقف معين في النظام الدولي بشكل يتفق والأهداف المحددة سلفاً. ومـن أجـل دعـم وتفعيل السياسة الخارجية العراقية، ليس للقيـام بـدور قيـادي أو مبشِّر بعالم جديد ولكن لتكون موجهة أولاً لتنمية القدرة البشرية والاقتصادية والبيئية للعراق حيث أن انعكاس السياسة والأوضاع الداخلية مؤثر فاعل على عمل قنـوات السياسة الخارجية. ويعتمـد فـهـم التغيير التـوجهي لأهداف السياسة الخارجية والبحث عن أدوات ما يسمى “القوة الناعمة” مما يبعد العراق من الدخول في علاقات صراع مسلح تدمر قدرات وثروات العراق كما شهدها في مرحلة الحروب السابقة الإقليمية أو العالمية لدولة العراق. والمتغيـرات الفعليـة الكامنـة فـي بيئـة عمليـة صـنع السياسـة الخارجيـة، كشـكل النسـق الـدولي والقـدرات الاقتصـادية والعسـكرية للوحـدة الدوليـة وغيرهـا مـن المتغيـرات وهـي علـى صـعيدين متغيـرات داخليـة تنشـأ عـن البيئـة الداخليـة للوحـدة الدوليـة بمـا فيهـا النظـام السياسـي والخصـائص القوميــة والامكانيــات الاقتصـادية والعسـكرية ومــا الـى ذلـك. واخــرى خارجيــة تنشــأ نتيجــة التفاعـل مـع الـدول الأخـرى ومـع المواقـف الدوليــة أي التعامـل مـع البيئــة الدوليــة المتغيـرة.
ان العلاقات العراقية – الاقليمية مقبلة على مرحلة مهمة تؤثر فيها التفاهمات الامنية والسياسية بدرجة كبيرة في ظل وجود مخاطر مشتركة متمثلة بتحديات الارهاب وسبل مواجهته ، في الوقت ذاته فان العلاقات بين الجانبين يمكن ان تشهد مزيداً من التنسيق الذي سيفضي بلا شك الى تطوير العمل المشترك والروابط على مختلف المستويات لان العراق يشهد حراكاً سياسياً داخلياً وخارجياً من اجل تحقيق الاستقرار الداخلي الذي سينعكس على بيئته الاقليمية . كما ان تحقيق التوافقات السياسية الداخلية سيكون مؤثرا فيما يخص الموقف العراقي الخارجي من القضايا الاقليمية الراهنة وتطوراتها وهذا ما سيحقق انسجاماً عراقياً واقليمياً حول العديد من الملفات في المنطقة. والسياسة الخارجية للأمة يتم صياغتها وتنفيذها من قبل صانعي السياسة, وبذلك تأخذ في الاعتبار المصلحة الوطنية للأمة ، والبيئة الداخلية والخارجية ، والقيم الوطنية ، وأهداف السياسة الخارجية وقرارات الدول الأخرى وطبيعة هيكل السلطة الدولية ,هذه تُشكِّل عوامل / عناصر السياسة الخارجية.وهي الإطار السياسي الذي يحكم علاقة دولة ما بالدول الأخرى، وهي تعكس المصالح الوطنية للدولة وكيفية تحقيقهاً.
وقد مثَّلت العلاقات مع القوى الدولية عاملاً مهماً فى السياسة الخارجية لاعتبارات عديدة فى مقدمتها الحسابات الأمنية والاقتصادية لصانع القرار للدولة إذ أن تعزيز العلاقات مع القوى الدولية يضمن، بشكل أو بآخر، للنظام تأمين مصالحه فى سياق إقليمى محتدم بالأزمات، ناهيك عن المكاسب الاقتصادية المتحققة من وراء العلاقات مع هذه القوى. والسياسة الخارجية للدولة تُعبِّر عن مجموعة من الأهداف السياسية التي تتحدد من خلالها كيفية التواصل بين هذه الدولة ومحيطها، وتتمحور هذه الأهداف بشكلٍ عام حول حماية أمن الدولة وتحقيق مصالحها الوطنية، والفكرية، والإقتصادية، ويمكن تحقيق هذه الأهداف عبر الطرق السلمية والتعاون مع الوحدات الدولية الأخرى، أو عبر الحروب والاستغلال واستخدام القوة.
في العلوم السياسية هناك مسؤولية تقع على عاتق الدولة وأخري علي عاتق مراكز الفكر الإستراتيجي وذلك في إطار سبل التعاون وتطوير مراكز الفكر والنهوض بها ،إذ يجب على الدولة أن تقوم بمساعدة مراكز الفكر الإستراتيجي في التغلب على التحديات والعقبات التي تواجهها وزيادة محيط الثقة بين الطرفين كما يجب عليها أن تقوم بالإعلان عن مراكز الفكر الإستراتيجية على أنها مؤثر وصانع مهم من صنّاع السياسة العامة لأن ذلك يدفع الأفراد بالثقة في مراكز الفكر والبحث، وعلى الجانب الآخر ينبغي على مراكز الفكر أن تكون على قدر من الثقة والثقافة التي تمكِّنها من مشاركة الدولة في صنع السياسة العامة والتأثير في قراراتها.
وعلى الرغم من أن التغيرات التي شهدتها العلاقات الدولية قد أدت إلى زيادة وتنوع الفاعلين والقضايا وتعقّد العمليات التي تنطوي عليها، فإن الكثير مما يجري في الساحة الدولية هو في الحقيقة نتاج سلوك السياسة الخارجية لدولة أو مجموعة من الدول. لإن العلاقات الدولية تتكون على الأقل في أحد مستوياتها من شبكة متفاعلة من السياسات الخارجية. وتوجهات السياسة الخارجية تحكمها عدة محددات ،تنقسم إلى محددات داخلية وأخرى خارجية. والمحددات الداخلية تتعلق بالبيئة الداخلية للدولة، وتتنوع هذه المحددات بدءاً من الجغرافيا ودور الموقع الجغرافي في تحديد أهمية الدولة، إلى تنوًع الموارد الطبيعية وتوفّرها والذي يعطي للدولة قوة اقتصادية في حال استخدامها بشكل جيد،يعطيها القوة والثقة في النفس .ما يجنِّبها المساومات التي تواجهها في حال الضعف.كما تلعب المحددات الشخصية والمجتمعية والسياسية الدور الهام في توجيه السياسة الخارجية وفقاً لأطر فكرية أو إيديولوجية وحتى ثقافية وحضارية وتاريخية.أما المحددات الخارجية فهي في الأساس تتمحور حول النسق الدولي من خلال تعدد الوحدات الدولية والذي من شأنه أن يربط هذه الوحدات ببعضها البعض أكثر، كلما زاد عدد هذه الوحدات .كما أن تفاعل البنيان الدولي وترابط الوحدات الدولية من خلال المؤسسات الدولية وما ينتج عنها من التزامات قانونية وأدبية ،كل ذلك يساهم في توجيه السياسة الخارجية للدول .عمليــة رسـم السياسـة الخارجيــة تبدأ بتحديـد الأهـداف التـي تسـعى الدولــة إلـى بلوغهـا وفـق مـا تــؤمن بــه مــن معتقــدات، ولاتنتهــي بتحديــد الوســائل والإجــراءات الكفيلــة بتحقيــق تلــك الأهــداف، بــل تتعداها بمتابعة عملية التنفيذ والتعديل والتغييـر فـي تلـك الوسـائل والآليـات حسـب الموقـف، ممـا يبعـدها عن الجمود والنمطية. والسياسـة الخارجيــة الصـحيحة هـي التـي تقـوم علـى أسـس صـحيحة قائمــة علـى “المراجعــة والتدقيق والتشاور في اتخاذ القرار ووجود سلطة تشريعية تراقب وتنبّه على الأخطاء لطبيعــة الوضـع السياسـي” ,والسياسـة الخارجيــة لأيــة دولــة يمكـن أن تخفـق أحيانـا وتـنجح أحيانـا تبعـاً للوضع الداخلي وصراعات القوى المتنفذة ، والمتغيرات الداخلية والاقليمية والدولية.وقــد كانــت العلاقــات العراقيــة مــع الــدول العربيـــة تتذبــذب بــين الســلب والايجــاب، وبسـياقات عكسـت حالــة التخـبط السياسـي وعـدم وضـوح فـي التوجهـات السياسـية. لذا فصناعة قرارات السياسة الخارجية يمكن أن تُدرس في ضوء التفاعل بين متخذي أو صنّاع القرارات وبيئتهم الداخلية.
وأهداف السياسة الخارجية العراقية الراهنة على المدى المنظور بحاجة الى اعادة تقييم شاملة من اجل تفعيل أدوار جديدة في النشاط الدبلوماسي المؤسسي الذي يجري عبر العديد من القنوات ومنها الدبلوماسية الشعبية، على أمل معالجة المشكلات والأزمات العالقة والقيام بدور أساسي في صيرورة مصالح مشتركة في المنطقة ولخلق شعور مشترك أيضاً من الممكن أن يسهم في دفع دول الجوار الإقليمي إلى دعم العراق. فليس من مصلحة الدول المجاورة للعراق إتهامه بأنه تابع لدولة ما من الدول الإقليمية والعكس هو الصحيح ، إذ ليس من مصلحة العراق إعادة طرح مواضيع سابقة كانت جزء من الأحداث التاريخية التي وقعت قبل عام ٢٠٠٣؛ وإنما المصلحة المنطقية تكمن في البحث عن مسارات جديدة تتجاوز تعقيدات وتراكمات الماضي , فالمعادلة الحاكمة في أهداف السياسة الخارجية العراقية الراهنة تقتضي بناءً سليماً وسلمياً بعيداً عن التوتر مع دول الجوار الإقليمي ودول اخرى، مع العمل على صيرورة مدرك واضح يبعد علاقات العراق الخارجية عن دوائر الشك والريبة في مرحلة التعاطي مع الاحداث الخارجية الراهنة(1).
والعراق بوصفه أحد البلدان التي تتأثر بالتحولات الاستراتيجية التي تشهدها المنطقة، لعوامل سياسية واقتصادية وأمنية عديدة، وجدَ نفسه أمام وضع إقليمي صعب للغاية والسبب في ذلك هو حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي التي يعيشها العراق بعد التغيير ، لذلك ينبغي له المشاركة في التطورات السياسية التي تحيط به؛ وقد اختار العراق عدم التدخل في الشأن الداخلي لدول الجوار ، محاولاً جمع دول الإقليم حول مبادرات ومشاريع إقليمية عديدة؛ لإدراكه أن ذلك قد ينعكس إيجابياً على الداخل العراقي. ومع انعكاسات البيئة الداخلية والخارجية ومعطياتها وتأثيرها الواقع على صنع السياسات الخارجية وتوجهها ونمطها، نجد أن العراق عانى فعليًا ما بعد الاحتلال من تحديات نبعت من الإشكاليات التي تمثلت بالاحتلال والارهاب,وبقايا النظام السابق .. حيث تأثرت عملية صنع القرار الخارجي بتلك المتغيرات. واليوم، يعاني واقع السياسية الخارجية العراقية من مشاكل متعددة أبرزها عدم وحدة القرار السيادي وتعدد مصادره من حيث الصنع والتنفيذ والتمثيل.. في حين تتعقد خياراتها المستقبلية وتزداد صعوبة في ظل بيئة إقليمية ودولية بات فيها الصراع والتنافس حاضرًا ويستند لسياسة المحاور. و هنالك العديد من التحديات، التي تضعف من قدرة العراق على صياغة مقاربات تدعم حركته في إطار السياسة الخارجية، وتمنع من ممارسة سلوك خارجي فاعل تجاه محيط العراق الإقليمي والدولي.
—————–
1-د. عبد الجبار احمد عبد الله ، العراق ومحنة الديمقراطية(دراسات سياسية راهنة) بغداد، ط1/ اذار/ 2013ن ص10