تناولنا في القسم الأول من هذا الحديث مسألة ملكية الارض التوراتية، وكيفغ حولتها الصهيونية العالمية الى مادة سياسية تتاجر بها باسم الدين اليهودي، تماماً كما تعمل ربيباتها في احزاب الإسلام السياسي حينما تتاجر بالدين من اجل منافعها الدينية الشوفينية واطماعها في السيطرة على البلاد والعباد لنهب الخيرات وابتزاز الشعوب كما يجري اليوم.
ويتعلق هذا الموضوع بما سبقه من الفكرة التي تنطلق من ملكية الأرض الكبرى من الفرات الى النيل وتاويل الصهيونية العالمية للنص التوراتي كاسلوب من اساليب توظيف الدين سياسياً وذلك من خلال التأسيس لدولة دينية يهودية اعتبرت القدس عاصمة لها معللة ذلك بان هذه المدينة كانت مدينة يهودية في كل تاريخها .
مرة اخرى تتضح فيه الإدعاءات الزائفة التي توظف الدين للأغراض السياسية . تماماً كما يجري ذلك في كل دين ، خاصة الأديان الإبراهيمية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام. ووضوح زيف مثل هذا الإدعاء الصهيوني يتجلى من خلال النص التوراتي نفسه الذي جاء في الإصحاح التاسع عشر من فصل القضاة ، الفقرات 11ـ 12 والتي تنص على ما يلي :
” وفيما هم عند عند يبوس والنهار قد انحدر جداً قال الغلام لسيده تعال نميل الى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها ، فقال له سيده لا نميل الى مدينة غريبة حيث ليس احد من بني اسرائيل هنا ”
تاريخ هذه المدينة يحدثنا بان شعوباً كثيرة عاشت فيها، فاكتسبت بذلك اسماءً كثيرة ،وآثار كثيرة تشير الى ماهية هذه الشعوب التي سكنتها.
لقد اكتسبت اسمها الأول من مؤسسيها اليبوسيين حيث كانت تسمى يبوس . وفي العام 1049 قبل الميلاد وفي عهد الملك داوود سُميت مدينة داوود . وعندما احتلها البابليون في سنة 587 ق.م، بقيادة الملك البابلي “نبوخذ نصّر الثاني” بعد أن هزم آخر ملوك اليهود “صدقيا بن يوشيا”، ونقل من بقي فيها من اليهود أسرى إلى بابل بمن فيهم الملك صدقيا نفسه، سُميت اورسالم . وعندما احتلها الإسكندر الكبير عام 332 قبل الميلاد اطلق عليها لأول مرة اسم يورشاليم . اما الأسم القدس او بيت المقدس فقد اطلقه عليها المسلمون بعد ان احتلوها عام 638 م . وفي عهد الدولة العثمانية اطلق عليها العثمانيون اسم القدس الشريف .
هذه الصفات والأسماء التي اكتسبتها هذه المدينة ، اضافة الى الثقافات المتنوعة التي نشأت على ارضها ترينا بوضوح بانها كانت مستقراً وموطناً دائماً لكثير من الشعوب المختلفة الأجناس والديانات. لذلك لم يستطع المؤرخون وضع تاريخ ثابت لنشوءها الذي اعتمد على التقديرات التي تتراوح بين 6000 الى 3800 سنة. إلا ان تاريخ المدينة المعروف يخبرنا عن مراحل تاريخية متعددة مرت بها هذه المدينة وطبعتها بطابعها الأممي الخاص بها . وتشير بعض المصادر التاريخية الى انه حتى الفراعنة كان لهم نصيب في رسم معالم هذه المدينة . لذلك يصبح من غير الممكن ان يزعم اي دين او اية قومية او اي شعب باحقيته وحده بها. وتتجلى اهمية المدينة لكثير من الأمم والأديان من خلال ما تركته فيه هذه الأمم والأديان من ثقافات وملامح تاريخية تشهد على تواجدها على ارضها في حقب تاريخية مختلفة وبعيدة في عمق التاريخ الإنساني . والظاهر ان الآثار الدينية التي تركها منتسبو الأديان الإبراهيمية على معالم المدينة تشكل اليوم المشترك الأكثر اهمية ووضوحاً ، وتجعل المدينة تكتسب اهمية روحية خاصة لدى منتسبي هذه الأديان . ولا نبالغ في القول اذا اعتبرنا اهميتها الروحية اكثر تاثيراً على كثير من الناس باديانهم المختلفة على اهميتها السياسية التي تحاول الصهيونية العالمية التأكيد عليها لنقل الأهمية الى الطابع الأيديولوجي الذي يمكن توظيفه سياسياً لتحقيق المصالح السياسية للحركة . وعلى هذا الأساس فإن اليهود والمسيحيين والمسلميين مرتبطون روحياً بما لهم من آثار مقدسة فيها ينبغي ان يتم احترامها من قبل جميع المعنيين بامر هذه المدينة ، واجتناب مفهوم الملكية الخاصة الذي لا يتناسب مطلقاً وحقيقة التاريخ الذي مرت به هذه المدينة.
من الطبيعي ان تاخذ مدينة القدس موقعاً خاصاً بين العرب والمسلمين ينطلق ، كما ذكرنا اعلاه ، من القيمة الروحية والقدسية الدينية لها . فالبنسبة للعرب قبل الإسلام فقد سكن الكنعانيون الذين سبق وان هاجروا قبل اربعة آلاف سنة من الجزيرة العربية واستوطنوا قريباً منها وهم الذين اسسوا ايضاً كثيراً من المدن كاريحا ونابلس وحيفا وغزا وغيرها . اما مؤسسو المدينة الأصليون فهم اليبوسيون الذين يشكلون احدى قبائل الكنعانيين والذين سميت المدينة باسمهم بعدئذ. إلا ان الإسم كنعان الذي سميت به المدينة كان قد سبق اسم يبوس الذي اكتسبته مؤخراً . حيث تشير المصادر التاريخية الى ان اسمها كان حتى عام 1200 قبل الميلاد : مدينة الكنعانيين.
اما بالنسبة للمسلمين فإن اهميتها الروحية تجلت من خلال كونها كانت قبلة المسلمين الأولى ولمدة اربعة عشر سنة بعد الرسالة الإسلامية وقبل ان تتحول القبلة الى مكة المكرمة . وبالرغم من تحول وجهة الصلاة من القدس الى مكة ، ظلت القدس تحتل المكانة القدسية الثالثة لدى المسلمين بعد الكعبة والمدينة المنورة . ولم تبرز اهمية القدس بالنسبة للمسلمين من خلال كونها القبلة ألاولى فقط ، بل وبسبب كونها نقطة انطلاق المعراج التي يعتبرها المسلمون من اهم الأحداث في التاريخ الإسلامي والتي جاء بها النص القرآني ضمن قصة الإسراء في السورة 17 الآية الأولى.
وقصة ألإسراء هذه التي حدثت في السنة الحادية عشر او الثانية عشر من تاريخ الرسالة الإسلامية تتكون من مقطعين ، لذلك يطلق عليها التاريخ الإسلامي تسمية ” الإسراء والمعراج ” . يضم المقطع الأول الرحلة الليلية للنبي من مكة الى الى القدس على براق الذي اوصله بعدئذ الى سدرة المنتهى التي يراها الفقه الإسلامي في السماء الإلهية العليا ، وهذا ما يُطلق عليه المعراج الذي يشكل المقطع الثاني من هذه الرحلة الليلية. وفي هذه الرحلة الليلية التي اوصلت نبي الإسلام الى السماء الإلهية العليا السابعة، يتحدث التاريخ الإسلامي عن مقابلات النبي محمد في السماوات السبع التي مرَّ بها بالأنبياء الآخرين الذين بُعثوا قبله ، قبل ان يوصله براق الى السماء العليا حيث كان قاب قوسين او ادنى من الذات الإلهية.
ينطلق الفكر الإسلامي من حدوث هاتين الحادثتين ، الإسراء والمعراج ، حقيقة في ليلة واحدة ، إذ ان النبي محمد شوهد شخصياً في مكة في اليوم التالي من هذه الحادثة .ويتعلق هذا الموضوع بفهم هذه القصة التي يعتبرها البعض رمزية في حين يفهمها البعض الآخر من المسلمين على انها حقيقة واقعة
اما ما يخص القدس التي جيرتها الصهيونية العالمية كعاصمة للدولة اليهودية ، فإن هذا الأمر يرفضه الكثير من اليهود المتنورين انفسهم والذين يعملون من اجل السلام وحق الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة التي يطالب بها . وكثيراً ما يتفق مثل هؤلاء اليهود مع الفلسطينين المسلمين والمسيحيين الذين يشاركونهم التوجه الفكري هذا . وادرج ادناه ، باختصار وترجمة بتصرف ، واحدة من الوثائق المشتركة بين الجانبين والتي وقعها كل من الكاتب ورجل السلم اوري افنيري والكاتب والصحفي وداعية السلام عزمي بشارة . انقل محتوى هذه الوثيقة بترجمتها بتصرف عن اللغة الألمانية حيث سبق وان نشرت النص الألماني في احدى الدوريات الألمانية ويمكن مراجعة ذلك :
“القدس لنا ، نحن الفلسطينيون والإسرائيليون ، مسلمون ومسيحيون ويهود. قدسنا هي خليط من ثقافات متعددة، ومن جميع الأديان وفي كل المراحل التاريخية التي مرت بهذه المدينة واغنت تاريخها. الكنعانيون، اليبوسيون،الإسرائيليون،اليهود والإغريق والرومانيون والبيزنطينيون،المسلمون والمسيحيون، العرب والمماليك،العثمانيون والبريطانيون، الفلسيطينيون. هؤلاء وكل من ساهم في رسم الوجه الثقافي لهذه المدينة، لهم مكانهم الروحي والجسدي في ربوع مدينة القدس. قدسنا يجب ان تكون مدينة موحَدَة ومفتوحة لكل ساكنيها، مدينة بدون حدود وبدون اسلاك شائكة في وسطها. مدينتنا يجب ان تكون عاصمة لدولتين متجاورتين مع بعضهما البعض. مدينتنا يجب ان تكون عاصمة السلام.”
وعلى هذا الأساس ، واستناداً الى كل المعطيات التاريخية التي عاشتها هذه المدينة المتعددة الثقافات والأسماء والشعوب ، فإن المقولة الصهيونية بحق اليهود فقط في القدس تصبح لا معنى لها ولا تؤيدها المصادر التاريخية المختلفة التي تتحدث عن هذه المدينة وتاريخها. وحينما تشير الصهيونية الى نصوص التوراة لتؤيد مقولاتها في احقية اليهود لوحدهم في مدينة القدس ، فإن ذلك لا يتعدى التفسير الصهيوني للتوراة والذي تحاول الصهيونية العالمية فيه تأويل النص بما ينسجم وسياستها العنصرية الإستعبادية المعادية لكل الشعوب.