الأعمال الفنية العظيمة يقوم بها أناس يواجهون التحديات المختلفة، إلى أن يصلوا إلى أعماق تلك التجربة؛ وبالتالي الحياة نفسها تصبح جديرة بالاحتفال، ويظهر معدنها النفيس بمدى روعة ذلك الفن.
ـ جيل الفرمان من الفنانين:
في عام (1982) توفي الفنان الشعبي الأسطورة (عيدو كتي ذياب) المعروف باسمه الفني (عيدوى كوتي). تعلم وتتلمذ عدد غير قليل من المهتمين بالدبكة والغناء الشعبي الكرمانجي على يديه. قدّم العديد من الأغاني الخفيفة الراقصة والشجية مثل: (عليكو دينو ـ بيدا ـ خيدا ـ أسمرى ـ شملانى ـ منجى..) وهي أغاني مشهورة تغنى للآن وباتت من الفلكلور الشنكالي.
وقام بتجديد بعضها في الوقت الحاضر الفنان الشعبي (دخيل أوصمان)، في رأي الشخصي إنه قد نجح إلى حد ما في ذلك، إلا إنه لم يغطي المساحة التي كان يشغلها أستاذه فنيا.
دفن هذا الفنان في قرية (كابارا) من أعمال قضاء سنجار تشيعه عدد قليل من أهله وأقاربه، وكان حريا أن يودع (عيدوى كتي) بجنازة تليق به كفنان شعبي كبير، وبأرثه الفني الذي بقي خالدا على مستوى المجتمع الشنكالي على الأقل.
وفي عام (2009) توفي قارئ المواويل الشعبية الشنكالية الأسطوري (خدر فقير) صاحب الأغنية الخالدة (كريفى) و(غزالي) وغيرها من المواويل التي ما تزال تغنى لليوم.
كان صوت (خدر فقير) وأسمه الحقيقي هو (خدر خديدا)، حزينا يؤدي المواويل التي تحكي قصص الفرمانات العثمانية على شعبه، وقصص الحبّ التي تستوجب التضحية.
وفي سفر رحيل الفنانين الكبار، وهم بالعشرات، يجدر بي الإشارة إلى عازف الطنبور الشنكالي المعجزة (خلف قاسكي) الملقب ب (خلف حكرش) وكذلك الفنان والحكواتي والأسطة وصانع الطنابر الشنكالية الفريدة العبقري العمّ (عليّ حربا) وهو جد الفتى المعجزة (حمّاد أسماعيل القيراني). وللمزيد من التفاصيل الممتعة حول هذا الفنان الرائد، يمكن قراءة كتابي (آل حربا) في حال صدوره ونشره، وأرجو أن يكون ذلك قريبا.
وقد أخصص مقالات قادمة أتحدث فيها بشيء من التفصيل عن بعض الفنانين ومنهم (آل حربا) المبدعين، والدخول في بعض التفاصيل المهمة.
ـ هل يمكن اعتبار الشعب الأيزيدي ـ وهم الأيزيدية الذين يسكنون مختلف بقاع العالم ـ مجتمع واحد؟
غالبا ما أطرح هذا السؤال المهم في كتاباتي، والجواب هو: لا بالتأكيد!
الأيزيديون كشعب واحد يتكونون من مجتمعات مختلفة، فالذي يسكن في داخل المدينة يختلف عن الذي يسكن القرى وأيضا يمكن تقسيمهم إلى مجتمع الخوركا والجوانا والفقرا. والأيزيدية في ولات شيخ ينقسمون إلى مجتمع بعشيقة وبحزاني، سكان باعذرا، وبقية المدن والقصبات والقرى في كردستان. ولاشك إن أيزيدية سوريا يختلفون عن أيزيدية تركيا أو جورجيا أو أرمينيا.. الخ
معظم فناني هذه الشعوب كانوا بالفطرة، تعلموا العزف والغناء وتأليف الأغاني وصنع الطنابر وسرد الحكايات، وكان معظمهم أميون لا يجيدون القراءة والكتابة أيضا، ولكن كان تأثيرهم كبيرا في مجتمعهم وتركوا بصمة واضحة كل من في مجاله واختصاصه.
ـ تطور الموسيقى الأيزيدية:
يقول الباحث (صباح كنجي): “يؤكد علماء التاريخ المعاصرون، من خلال استنادهم على المكتشفات الأثرية، إن الإنسان قد غنى ورقص وعزف قبل أن يبتكر الكتابة أو يعرف فن الرسم والنحت..
وفي بلاد الرافدين التي شهدت مهد الحضارات الأولى بتراثها الإنساني الغني، كانت الموسيقى جزءً هاما ً من مكونات تلك الحضارة.
لقد دخلت الموسيقى ضمن الميثولوجيا، كرافد أساسي، في الطقوس والشعائر الدينية ونصب أو تجديد المعابد والآلهة، بالإضافة إلى الشعائر الخاصة بطقوس الموت والانبعاث وكل ما يتعلق بالأفراح والأحزان.
وطالما كان للدين عند سكان العراق القدامى المكانة الأولى والمتميزة في الحياة اليومية ومعتقدات الناس، لذا فان تأثيره في جميع النواحي وأوجه حضارة العراق القديم، بما فيها الموسيقى، كان جلياً.
وإذا كانت المكتشفات الأثرية تؤكد هذه المعطيات بتفاصيلها الدقيقة، فأنه من الأهمية دراسة طقوس وعادات الأيزيدية، كبقايا دين عريق، له امتداد تاريخي إلى العهد السومري، حيث يمكن ملاحظة التواصل الحضاري بين الماضي والحاضر في مجالات عديدة، ومنها الموسيقى”.
صباح كنجي: كتاب (الأيزيدية. محاولة البحث عن الجذور) طبع في عام (2022). وأنصح هؤلاء الذين صدعوا رؤوسنا بقولهم: باحث أو كاتب في الشأن الأيزيدي بقراءة هذا الكتاب.
ـ الإنتقالة الأبرز في الموسيقى والغناء الشنكالي:
وتمثلت في وصول بعض الحطابين والنجارين الأيزيديين من سكنة قرى حوض جبل شنكال إلى صنع بعض الآلات الموسيقية البدائية مثل، الناي والطنبور الشنكالي الذي يحمل ثلاث أوتار فقط، وهو سبب أساسي في عزوف الجيل الحالي من استخدامه وتفضيل البزق السوري، أو البغلم التركي. الكاتب (مراد سليمان علو) من كتاب (آل حربا) كتاب عن سيرة حياة عائلة فنية. جاهز للطبع. وكذلك بروز مؤلفين عباقرة ومؤدين من أمثال (عيدوى كتي) و(خدر فقير) و(قبال) وغيرهم، إضافة إلى وجود المناسبات الدينية والاجتماعية التي تكون الموسيقى والغناء عنصران أساسيان فيهما.
بالتأكيد هناك ترابط وتأثير مباشر أو غير مباشر للموسيقى الدينية للأيزيديين على الموسيقى والغناء الشعبي عند الأيزيدية بصورة عامة ومجتمع شنكال خاصة. فهي نتاج للبيئة المتنوعة من جبل وسهول وصحراء وأسلوب العيش البسيط في القرى الطينية التي لم تتغير منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة بل منذ تأسيس قرى سومر لأول مرة.
ولكن، ومن وجهة نظر شخصية أرى مع وجود هذا العدد من الباحثين والكتاب والشعراء ورجال الدين وكتاباتهم ومطاليبهم عن الإصلاح وبمساعدة منصات التواصل الاجتماعي والبيوتات والمنظمات لم يعد بمقدورنا أن نعرف إن كنا نعدو نحو الأيزيدياتي عن طريق الفن أم إننا نهرب منه.
ثقافة ما يسمى ظلما بـ (الفن) على الساحة الأيزيدية ـ على الأقل في العراق وبين المجتمع الأيزيدي في ألمانيا تركز بصورة عجيبة على (تسهيل الأمور).
أشباه الفنانين هؤلاء يقدمون التفاهة؛ لجني أرباح آنية، وهم بذلك يقدمون تنازلات عن سابق إصرار وترصد في حق الفن، إن كان قد بقي من الفن شيء.
ومن حقنا أن نعبّر عن انزعاجنا من هذا الفعل، وشعورنا بالإحباط فيما يجري.
شخصيّا أودّ أن أرى تغييرا في هذا المشهد المأساوي، ولكن قراءة الواقع يقول العكس تماما حيث إن المنطق يحتم على الساعي للإبداع أن ينكر ذاته ناهيك عن القلق الذي يصيبه في مسعاه وطرح العديد من الأسئلة.
تأسيسا على ذلك يرفض (الفنان) أو(المطرب) ـ وهو ليس إلا بوقا ـ أن يتأكد من مخاوفه ويفضل البقاء في مطقته الآمنة والعمل على زيادة عفونتها.
التحليل والتقييم بالاعتماد على فرضيات فلسفية وأساليب أدبية لن يؤدي إلى التغيير، أو إلى استنارة ثقافية. الحلّ يكمن في اللجوء إلى التحدي بعيدا عن هذه الأصوات النشاز، والأفعال القبيحة، ويمكن البدء بالشباب ودخولهم إلى المعاهد والمدارس الموسيقية المتخصصة بالاعتماد على الذات ولا يفوتني أن أذكر هنا محاولتي اليائسة لحث (منظمة يزداـ فرع العراق) في عام (2016) على تبني موهبة حماد أسماعيل القيراني، وشقيقه نصرت ولكن دون جدوى.
أخيرا أرغب أن أوكد لكم إن السياق التجاري والرغبة في الحصول على القوت اليومي وخاصة في العراق يحتم على هؤلاء المراوحة في بؤرة عفونة الحفلات الخاصة دون الاهتمام بالمساعي الفنية التي لا تجلب غير (الهمّ) و (دوخة الراس) حسب تعبير أحدهم.
وأخيرا الفن الراقي هو الأبقى، وعلى المودة نلتقي.