المقدمة
مشكلة التنمية بين الحداثة والتراث، التمعن في المصطلحات الثلاثة وايجاد العلاقة بينها، بات من الهموم الأساسية لمفكري العصر وخاصة في بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية، وغير العربية في الشرق الأوسط ٠ قد نقنع أنفسنا بشكل سطحي وعابر بتصور الحداثة modernity)) كموضوع غربي وجدت طريقها الى الظهور بإختراق التراث أو التقليد (Tradition)، أو شن الحرب ضده، والتنمية هي حصيلة الحداثة أو نتيجة حتمية ملازمة لها وهدف استراتيجي للبلدان الواقعة خارج نطاق النظام الفكري، من أجل تحقيق التنمية ينبغي أن نكون حداثيون ولا تتحقق الحداثة الا بمحاربة التراث والتقليد٠ لكن لو نأتي لحيز التطبيق فهذه التصورات الانفة الذكر والبعيدة عن الواقع لاتخدم سوى أصحاب الأفكار العاجزة وغير المسؤولة إتجاه مصير الانسان والمسألة أكثر تعقيد من حلها بهذه السهولة ما لم يتغير الانسان ولن يظهر أي تحول مصيري في حياته الاجتماعية لان التغيير عملية شائكة وصعبة وليست جميع عناصرها طوع الانسان٠
آراء مختلفة :
- إن سبب غزو الفكر الحداثي للقيم سواء الدينية أو الاجتماعية ، هو جنوح الناس عن المألوف ولهثهم وراء العصرنة، المقصود هنا مانسميها بالقيم الثابتة سواء في الدين أو الاجتماع على الاغلب، فمن كثرة التكرار والاجترار تصبح الثوابت مألوفة وهذا يدفع الناس للتطلع الى التجديد بمواكبة كل ماهو جديد وحديث بدافع الفطرة والفضول٠فمثلا ترددك المستمر لاماكن وإن كانت على أهمية يدفعك الى تغييرها وكسر المألوف لاماكن أخرى تحقق الغاية ذاتها ٠
- أو الطفل الصغير يلقي بلعبته القديمة لمجرد رؤيته لأخرى جديدة ٠من أين لنا الابداع والابتكار والتجديد ونحن مازلنا نصر على الثبات
- فك الارتباط العسكري بين الشرق والغرب لم يكن ناتجا عن المقاومة وأنما نتيجة التحول في العقل الغربي وفهمه الجديد للاستعمار وما يسمى ب (عقلنة الاستعمار)
- كيف ستقاوم الشبكة العنكبوتية، بتدمير (الأقمار الصناعية) أم بسحب الحواسب من السوق المحلية؟
- الصين تدافع عن قيمها بالابداع المضاد والمنافسة في الإنتاج وليس بالاستعداء ٠
دور النشأة والبيئة في التفاعل مع الحداثة
إنسان نشأ في عالم الحداثة وهو يتفاعل مع التدفقات الثقافية بشكل إيجابي، كونها جزء من تكوينه العقلي وهو مؤهل لهذا التفاعل، ولكن شخص ينتمي لعالم آخر غير مهيأ لذلك قد يصاب بالذعر من المعرفة العصرية ومواكبتها التي تتناقض مع الثوابت والتحيزات والاساطير وتصوره للكون وتتناقض مع إدراكه لذاته وللاآخر
وقد يهرب الى الماضي بحثا عن عالم يعرفه ويتوافق معه بدون أزمة قد تنشأ في العقل نتيجة عدم قدرته على فهم الواقع والتعايش معه ومواجهة تحدياته بشكل فعال٠
الحداثة
الكثيرون يرون (الحداثة) إنها بمثابة ثورة على التراث وتشكل آخر مقبرته٠ بمجرد التعمق فيها يعني الابتعاد عن التراث، وكأن الحداثة صنعة وليست تراكمات معرفية وتطورية فرضتها مسارات التطور العقلي والمعرفي٠ فالتراث لايقتصر على الدين فقط والحداثة لم تدرك مسارها للحط من مكانة الأديان أليست هي نتاجا فكريا معرفيا في سياق التطور البشري؟ بعيدا عن الارادوية الفلسفية والسياسية٠ فالحداثة (إنفجار معرفي لم يتوصل الانسان المعاصر الى السيطرة عليه) ، كما عرفها (رولان بارت) لذلك تحول فكر الحداثة مع الزمن الى جزء من التراث الفكري الإنساني ٠
المجتمع البشري (حتى في أبسط صوره) معرض للتغيير والتحول ترى تحل ظواهر جديدة محل الظواهر القديمة في نظام الانسان ٠ الفرق الجوهري بين العالم القديم والعالم الحديث، لا يعني الثبات المطلق للأول والتغيير المطلق للثاني، بل هو في حركة تغيير بطيئة في الأول وإكتساب سرعة متزايدة في العالم الثاني ٠ ولا يمكن أن نطلق كلمة (حداثة) على كل تحول أو بروز ظواهر جديدة في المجتمع٠ وأن كانت باهرة، بل الحداثة يمكن أن تطلق على روح الحضارة الجديدة والثقافة المنسجمة معها رغم البحث الشائك للتوصل الى حقيقة العلاقة بين الحضارة والثقافة باعتبارهما وجهين لحقيقة واحدة وأمرين مرتبطين ببعضهما ٠ مادامت الحضارة الحديثة وجدت استقرارها على أنقاض الحضارة السابقة ومن الطبيعي أن تنسجم مع الثقافة المناسبة لها٠
التراث
هو ماخلفه الأجداد من تراكمات معرفية ونتاج فكري في سياق صيرورة إجتماعية إقتصادية، عبرت الزمن من الماضي الى الحاضر على حاملها التأريخي من الأجداد الى الإباء والابناء ليعبروا بها عن الحاضر و المستقبل ولا ينحصر التراث في الفكر الديني الذي يعتبر من أحد ممارسات الانسان رغم العلاقة العضوية بينهما ٠ بل يصبح التراث بطانة لوعاء الحضارة وجزءا من إشكالية المعرفة والبحث عن الحقيقة ولا حضارة من دون تراث٠ ومادام التقليد والتراث يتعاملا مع الماضي والقديم، لايصح أن ينعت كل أمر قديم بالتراث لان القوانين الحاكمة على الوجود هي سنة طبيعية من الممكن أن يخطئ الانسان في إكتشاف هذه النواميس، ويدرك هذا الخطأ فيما بعد٠إنا الذي يتغير ليس أصل القانون بل فهم الانسان وتصوره له٠
وإن آمنا بمبدأ التغيير وعدم الثبات في طبيعة العالم كما في فلاسفة المسلمين (الحركة الجوهرية) أو الماركسيون الذين يعتبرون العالم يحمل داخله تضادا وتكون الحركة والتحول ومبدأ التغيير صفة ذاتية وسنة ثابتة ومستمرة في العالم ٠ ولكن لا تتقبل الناس أن يقابل كل تقليد أو تراث، التجديد أو الحداثة، لان الناس جميعا أذعنوا عمليا لسلسلة من الأمور الثابتة والقديمة في جوانب من حياتهم دون أن يتهمهم أحد بالتقليد أوالماضوية ٠في التصور التقليد شأن إنساني له علاقة بفهم الانسان الفكري والعاطفي. أي أنه يمثل الرؤية والسلوك المتعارف في مجتمعه المتصل بالماضي ويتفق مع الثقافة أكثرالأحيان ويعد مظهرا لها، مع إننا لا يمكن أن نطلق على كل ثقافة أمرًا تقليديا ٠
التقليد
عبارة عن الثقافة الموجودة داخل مجتمع ما إمتلك حضارة ثم بدات ٠
اذن حضور ثقافة الماضي في العصر الحاضر في زمن إضمحلت الحضارة أمر ممكن، التي هي أساس الثقافة وتوأمها الملازمة لها٠ وتبقى الجذور الممتدة في عمق أرواح الناس ومن الطبيعي أن تكون أكثر دواما من الحضارة نفسها٠ إذن التقليد (هو تجلي ثقافة الامس وتجسيدها في حياة اليوم) ذلك في زمن تحولت تلك الحضارة وتبدلت٠فاذا ظهرت الحضارة الجديدة وترسخت الثقافة المتطابقة معها
فاصحاب الحضارة المتلاشية تبقى مع الثقافة المنسجمة مع الحضارة المتلاشية٠وتبقى تلك الثقافة في أعماق نفوس الناس الذين يقفون في معرض حضارة وثقافة جديدة (تبتلي) بالتناقض ، فمن جهة يتأثر واقع الحياة بمتطلبات الحضارة الجديدة ومعطياتها، ومن جهة أخرى تبقى الأرواح والنفوس محاطة بالتصورات والقيم التي تناقض قيم وتصورات الحضارة الجديدة٠ واليوم أمما وشعوبا تبقى مبتلاة بمثل هذا التناقض والتضاد وتشكل أزمة روحية – إجتماعية لمجتمعاتنا وهذا التباين الجوهري يشكل أزمة مع المجتمع الغربي وحياتهم أيضا
وإن لم تحل تبقى قائمة وتزيد من تباين وجهات النظر والصراع الحضارى التنموي
لان المجتمع الغربي بدأ حضارته الحديثة بإختراق التراث ورفضه له٠منذ أن أصبحت تقاليد الكنيسة الفكرية، وتقاليد النظام الإقطاعي الاجتماعية، والاقتصادية
محل (شك وتردد ثم نفي وإنكار) وعلى غرار ذلك كان فارس ميدانها الحضارة الحديثة وقادتها المفكرون والمعنيون٠ وترسخت الحضارة الحديثة اليوم موطن ظهورها في (الغرب) ومركزيتها إمتدت من أوربا الى أمريكا وإستولت على مختلف أنحاء العالم حتى إن بلداننا وقعت تحت تأثيرها ٠ من جهة أخرى أن ثقافتنا لم تبق على حالها لبعد المسافة الزمنية وتأثير الثقافة والحضارة الغربية السائدة في العالم على أية حال ومهما تتباين في أماكن وتتقاطع مع الثقافة الغربية السائدة ٠ اذن لاجل تحديد معالم ثقافتنا في العصر الراهن ينبغي أن نتطلع الى المستقبل، لنتمكن الحصول على تصور سليم عن مستقبل يحضى بالقبول فليس لنا الا أن نعي ماضينا ونألفه ٠ وأن لايكون روادنا التقليديين المتحجرين الذين لازموا مظلة الماضي، ولا الحداثيين السطحيين المبهورين بهيمنة العصر وظواهره٠ وهذه الرؤية مبنية ومسبوقة بنظرتين نقديتين :
الأولى : النظرة النقدية للتراث والاستعداد لتقبل التغيير
الثانية : النظرة النقدية للحداثة بإعتبارها مرحلة عابرة في تأريخ الانسان وليست آخر مراحل تكامل التأريخ والخوض في المستقبل لايعني إنكار الحاضر ورفضه
إن الذين يصنعون الحضارة والمستقبل الواعد تتحقق لهم درجة النمو والوعي والشجاعة و تدركهم خلالها أهم المعطيات الفكرية والميدانية٠
الاستنتاج
فنحن لسنا محكومين بالذوبان في نظام الحضارة الحديثة الا إذا كنا لانؤمن بدور الحرية وإرادة الانسان، التي تتأثر بشدة العوامل البيئية، التأريخية، الاجتماعية والاقتصادية، لكن هذه الإرادة ليست أسيرة لها٠ لكنه ليس بمقدورنا تجاهل كل الإنجازات الباهرة والعظيمة في شتى المجالات منها (العلمية، الاجتماعية، والسياسية) لماذا لا نحاول إيجاد علاقة توافقية جديدة مع الوجود بذهابنا أبعد من الحاضر، خلال التسلح (بقدرة الحداثة ونقد التراث) وذلك بالتركيز على ماضينا المنتج لحضارتنا ونستفاد في نفس الوقت من معطيات الحضارة الباهرة بشكل إيجابي تخدم ثقافتنا وحضارتنا٠ كوننا نمتلك في تأريخنا سابقة حضارية تركت بصماتها على مصير العالم والانسان ٠وذلك بالارتكاز الى قاعدة موثوقة ومطمئنة والانطلاق منها الى ماهو أبعد من آفاق هذا العصر نحو مستقبل يستند الى الحاضر والماضي٠ولايخفى علينا أن الحداثة عنوان لنمط حياة كاملة توصل اليه الغرب وتعبير عن مرحلة زمنية تتميز عن سابقتها (المرحلة التقليدية) وهي ليست فقط تقدم تقني بل نظام قيمي أيضا ٠ ونحن بحاجة الى الامرين (التقنية والقيم) ضمن علاقة نقدية فلا يؤخذ بالشيء على سبيل التقليد الاعمى، بل يؤخذ بعد نسجه ضمن ثقافتنا
لاننكر قيم الغرب التي تعد نتاج تجربة أنسانية عميقة فعلى سبيل المثال (القيم الناطقة بحقوق الانسان)، (القيم الناطقة بسلامة البيئة)، (القيم الناطقة بمساعدة الدول المنكوبة) وغيرها من نتاج ماتوصلت اليها العقول السليمة بعد تجارب معمقة استمرت طويلا وهي ملك البشرية جمعاء وليست حكرا على الغرب ويمكن بالعلاقة النقدية إنتخاب مايناسبها والاستغناء عما لا يناسبها ٠وإنا أكثر ماتتطلبه الحداثة للنمو والبروز في أي حركة إجتماعية هي (الحرية) بمعنى الاستخدام العلني للعقل في أمور المجتمع وقضاياه المختلفة ٠