قرأت في الأيام الأخيرة.. بنسخ الكترونية.. من اهداء الأصدقاء الكتاب.. ثلاث روايات جديدة هي:
1ـ رواية (جحيم شنكال) للشاعر والروائي المبدع مهند صلاح
2ـ رواية (دغدغة ملائكة أوسنابروك) للشاعر والكاتب مراد سليمان علو
3ـ رواية تحت سماء داعش للكاتب صلاح رفو
تشترك الروايات الثلاث في محتواها المكرس لإدانة العنف.. وتحديداً العنف الديني المرافق لهمجية داعش والجرائم المرتكبة في سنجار.. يمكن توصيفها في حقل الادب الروائي المناهض للقسوة.. وكافة اشكال العنف.. والتمييز بين البشر.. وإدانة مرتكبيه.. والمساهمين في تبريره.. مع اعلان الموقف المتضامن مع الضحايا بلغة واضحة لا تقبل المساومة..
وهذا ما يمنحها أهمية قصوى.. في عصرنا الراهن.. الذي يشهد تواطئاً سياسياً واجتماعياً.. منتجاً لحالة تراجع انساني.. جعلت من داعش ظاهرة تنمو وتتفشى بسرعة.. لتمارس فحشها الديني والأخلاقي من خلال ممارسات همجية وحشية..
تكاد ان تكون مبررة من الشريحة الفاسدة في السلطة.. والمؤسسات السياسية العفنة.. بحكم ردود أفعالها “الباردة والهادئة” وغير المكترثة ـ كما يبدو في مجرى الاحداث والواقع ـ بما خلفه الدواعش.. مقارنة بحالة الاستفزاز والتوتر والقلق.. التي انعكست على الوسط الثقافي.. والمبدعين من الكتاب.. ممن واكبوا تفاصيل الحدث.. وتابعوه لينسجوا لنا.. في رد عملي توثيقي.. على الاحداث المريرة.. قصائد وروايات لتعبر عن موقف ثقافي ـ ابداعي مميز ومناهض لفساد الواقع المرير..
هي حالة استمرار لموقف الثقافة والمثقفين العراقيين.. الذين وقفوا ضد الطغيان وجسدوا من خلال ابداعهم في مجالات مختلفة.. ايقونات ثقافية انتجتها عقول من قرر عدم الصمت.. وانغمس في بودقة الحدث ليعلن.. رفضه لبؤس الواقع الملتبس.. وما يفرزه من معاناة بشرية.. بحكم حالة النزف المستمرة.. وديمومة تواصل الأخطاء والكوارث والمحن (في زمن الحكومة النائمة) كما يقول مهند صلاح في روايته..
الاخطاء والكوارث التي يرفضها جيل من المثقفين العراقيين الاحرار.. ممن يواصلون ابداعهم وكتاباتهم الراقية.. وجسدوا من خلالها تفاصيل الوجع.. وصوروا الآلام المرافقة للجروح الإنسانية بعمق.. يجعلنا نعيش المحنة بإيقاعها الدامي والمؤثر..
كما هو الحال مع الشاعر والروائي (مهند صلاح) الذي انطلق بإحساسه المرهف من أجواء الحلة لينسج شبكة علاقات واسعة مع جمهور مضطهد من الايزيديين.. في قرى ومدن سهل نينوى وسنجار.. وتقصى واقعاً اجتماعياً وثقافياً لجمهور منكوب.. يرفض الاستسلام والتخاذل.. ويمارس في أصعب الظروف طقوسه الميثولوجية.. تعكس تشبثه بالحياة والأرض والبيئة التي نشأ فيها..
ولا تخلو لغته البليغة ـ كشاعر وروائي ـ من سخرية وخيال خصب.. يقلب الموازنات والمعادلات ليقول: ان الجبل والحمير والكلاب فقط من يستحقون قداسة الحب لأنهم جنود الشمس.. الذين وقفوا مع الضحايا في محنتهم القاسية.. كما صور مشهد الكلب مع مروان وأطلق عليه (كلب الجبل).. وهي عبارة تدين كل من تاجر بالموقف وادعى.. انه واجه الدواعش.. وانتصر للسنجاريين.. ودافع عنهم.. وفقاً لما سماه في ثنايا روايته.. بـ (قانون الكذب)..
وهذا ما دونه واجمع عليه.. بشكل واضح وصريح.. صلاح رفو ومراد سليمان علو.. في تشخيصهم لمن ساهم في اسقاط سنجار.. وتسليمها للدواعش.. وهي إشارات ادانة.. لمن تاجر بسنجار وأهلها في أروقة السياسة.. والمزايدات الصاخبة الكاذبة لليوم..
الملفت للنظر في الروايات الثلاث ايضاً.. انها لم تتوقف عند انكسارات البشر.. من الضحايا والنساء والأطفال في المقدمة.. وتتبعت مواقفهم الرافضة للذل والخنوع.. وعكست اشكال من مقاومتهم.. كما يصف مهند صلاح حالة النسوة (النساء تسلخن جلودهن ليصنعن دفئاً لأطفالهن) بالرغم مما يصدح في الأجواء من (موسيقى الخراب) كما ورد في خاتمة روايته..
وان كان المبدع مهند صلاح قد تجاوز ما يمكن تسميته بـ (محنة الكتابة) عن الاحداث الدامية.. في زمن قياسي بحكم علاقاته الواسعة مع الحدث.. بطبيعته الإنسانية والجغرافية.. عبر زياراته المتكررة لمناطق سهل نينوى وبعشيقة وبحزاني وسنجار.. التي عاشت محنة الدواعش لينتج (جحيم شنكال) بلغة متماسكة ومكثفة.. لا تخلو من الشعر وجمال الأسلوب والسرد..
فإن الفرصة كانت أكبر للمُبْدعينْ الآخرين.. الشاعر مراد سليمان علو وصلاح رفو.. بحكم انحدارهم من سنجار.. وتمكنهم من معايشة الحدث بتفاصيل أوسع.. ليسجلا كمثقفين اول وثاني رواية تكتب عن محنة سنجار من خلال أبنائها المنكوبين.. في زمن الدواعش.. بلغة متماسكة ومحبكة.. لا تخلو أحياناً من بعض الهنات في الوصف بين المذكر والمؤنث.. وهما معذوران.. وهذه مشكلة غالبية من يكتب بالعربية من غير العرب تقريباً..
راوية صلاح رفو (تحت سماء داعش) وهي آخر رواية قرأتها قبل يومين فقط.. فيها الكثير من المشتركات.. مع ما ورد في رواية الشاعر سليمان علو (دغدغة ملائكة أوسنابروك).. وتدور احداث الروايتين بين العراق وألمانيا.. من خلال تداعيات وانتقالات شخوصها.. بين الغربة في أجواء المانيا.. والحنين الى أجواء الوطن الصادم.. ومعاناة الأحبة المنكوبين.. الذين تعرضوا لمداهمات إجرامية وأصبحوا أسرى الدواعش.. او مفقودين يجري البحث عنهم.. وعن رفاتهم..
يتم استعادتهم في أجواء مشفى الماني.. من خلال رواية مراد سليمان علو الجديرة بالثناء.. وأستطيع ان أقول.. انها رواية مهمة.. سيكون لها شأن وتأخذ موقعها بجدارة.. كرواية عراقية تدين القمع والارهاب والتجاوز على حقوق البشر واقتلاعهم من جذورهم..
وقد برع الكاتب مراد سليمان علو في توظيف تاريخ وأساطير بلاد الرافدين.. وربطها بالواقع الاجتماعي والميثولوجي للإيزيديين.. من خلال استدراك ذاتي للكاتب في ردهة العمليات ومراحل علاجه وتوتراتها وهو يقارن بين حالات مرّ بها واستخلص منها دروس وعبر..
تجعله رغم القهر والاضطهاد يتشبث بالوطن.. الوطن.. الارض والناس والميثولوجيا والتاريخ.. والوطن المستقبل.. الذي يجب ان تسود فيه رايات السلام والاستقرار والمحبة.. وهو طموح انساني يتعدى مشاعر وطموح الكاتب وشخصيات الرواية.. طموح وأماني تتداعى مع صفحات فصول الرواية بشكل سلس ولغة واضحة.. تجعل القارئ يسترسل في المتابعة بشوق.. اتمنى ان تبادر جهة ثقافية لطبعها وتوزيعها.. لأننا بحاجة لهذا النوع من الادب والثقافة الإنسانية.. التي تنتصر للإنسان وتقف في مواجهة العنف..
اما رواية صلاح رفو.. فإنها لا تخلو من الجديد المرهف.. وتمكن من انتقاله بين الغربة والوطن ليحمل معه جرحاً ثالثاً من خلال شخصية.. خديدا السنجاري الذي تغرب وعاش تفاصيل محنة لزميلة له في المطبخ والعمل الذي جمع بينهم.. ليكتشف انها مواطنة بوسنية.. لجأت بدورها الى المانيا.. من أجواء القسوة والاضطهاد وتعرضت للاغتصاب.. لكونها تحمل هوية جعلتهاً هدفاً وضحية للمتوحشين الارهابيين في بلدها.. وهي مفارقة مقصودة في الرواية.. جعلت منها ومن خديدا السنجاري.. مشروع حب معمد بمحنة المعاناة.. برؤية إنسانية تدعو للقيم النبيلة والتمسك بالآخر والحرص عليه.. كنت أتمنى ان يكون عنوانها.. (تحت سماء سنجار).. بدلاً من انْ يكون (تحت سماء داعش)..
هي قيم الادب المكافح الرافض للعنف والاستبداد.. المنتصر للإنسان.. في زمن ملتبس ينتج المزيد من الرذائل والقبح.. التي خطط لها وقبل بها السياسيون الذين حولوا البشر الى سلعة للمتاجرة.. ومارسوا عنفهم المنفلت ودمروا المدن والقرى الآمنة.. وأشاعوا مفاهيم.. رفضها المثقف وتصدى لها بإبداعه.. كما هو الحال مع كتابانا ورواياتهم الثلاث..
ــــــــــــــــ
صباح كنجي
17/12/ 2023