استهدفت المقاومة الفلسطينية الكيان الصهيوني في السابع من إُكتوبر بعملية كبيرة بحجمها وتأثيرها على الخارطة السياسية في المنطقة سمّيت طوفان الأقصى، والتي جاءت أشد إيلاما للعدو من حيث عدد الضحايا والأسرى، والأهم من ذلك حجم الفشل الذريع الذي مُنيت به الاستخبارات الإسرائيلية في كشف العملية قبل حدوثها، ويأتي طوفان الأقصى ردا على الاقتحامات المتكررة والعدوان المستمر من طرف المستوطنين، لنشهد سقوط وانهيار أسطـورة الدولـة القوية والجيش الذي لا يُقهر ، على أيدي قلّة من المقاومين يواجهون أعتى آلات القتل للامبريالية الأمريكية الداعم الرئيسي لنظام الفصل العنصري الصهيوني، من هنا تأتي أهمية استعادة مركزية القضية الفلسطينية في الوجدان العربي والعالمي، وعلاقتها بزوال قيم الإمبراطورية مقابل استمرارية الحضارة، وما بين الاستهداف الممنهج للمدنيين والصحفيين وقصف البنى التحتية.
إسرائيل منذ نشأتها كانت تتلقى الدعم الكامل من قبل الاستعمار الاستيطاني المتوحش، وكان ثمن ذلك الكثير من الشهداء والمهجرين من الفلسطينيين ، واستمر الوضع القائم كما تصفه الإمبراطورية الاميركية ضمن استراتيجية التغيير الشامل للشرق الأوسط، ومع خطط التقسيم التي طالت دولاً مثل السودان وغيرها ممن تحركت المجموعات الوظيفية للغرب في تأجيج الصراع الداخلي فيها، ازدادت ضراوة ووحشية الاحتلال الصهيوني مع كل حرب تخوضها المقاومة الفلسطينية ضده، ومع كل جولة ينساق لها الاحتلال صاغراً وذليلاً، ترتفع الأصوات المناهضة في شتى بقاع العالم، وحيث وطَّنت الصهيونية سرديتها التي لم نرها على ارض الواقع او في صفحات التاريخ ، خرجت الملايين من الجماهير تحمل راية الحقيقة والإنسانية، داعية إلى تصفية آخر المعاقل الاستعمارية . وعملية طوفان القدس أدَّت الى “فقدان ثقة واعتماد” الدول العربية التي طبّعَت وسارت في ركب التطبيع بناءً على قوة وقيمة “الرضى” الاسرائيلي حتى لو خالف وناقض وجدان الشعوب العربية والاسلامية والتي تدفقت بالملايين وبشكل غير مسبوق لتعلن تضامنها ودعمها وتأييدها لحماس وللمقاومة. وسيكون على إسرائيل أن تواجه عملية دولية من أجل جرّها إلى محكمة جنائية دولية على جرائمها التي ارتكبتها – بصورة مفضوحة وبشعة- في هذه الحرب. فقد قامت العديد من الحكومات والمنظمات بوصف إسرائيل بالكيان الإرهابي والعنصري والإشارة إلى قيادتها وسياساتها بجرائم الحرب، وحرب الإبادة، وارتكاب المذابح والمجازر.
و أن هناك تغييراً كَبيراً في المنطقة بعد عملية طوفان القدس , على رأسه قوة الأثر لوحدة ساحات المقاومة ومفاعيلها، ومستوى التنسيق والإعداد والتحضير لخوض المعارك العسكرية الواسعة، وفق خطط استراتيجية موحدة الأهداف والمقاصد، تسير في الميدان بخطوات ثابتة، ومدروسة، أثبتت فاعليتها الميدانية في ساحات المواجهة مع الأعداء، وتقود إلى نتيجة واحدة مفادها هزيمة أمريكا في المنطقة وزوال كيان الاحتلال.
قد يكون الجزء الأكبر في إسرائيل يشعر بنشوة الانتقام والثأر مما جرى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ في عملية طوفان الأقصى، على المدى القصير، لكن سيبدأ على المدى الأبعد النقاش داخل إسرائيل حول المسؤول عن الاخفاق، ضمن جدلٍ إعلاميٍ سيترك أثره على ميزان المناعة القومي في إسرائيل، وهو ميزانٌ لرصد العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع. قبل طوفان الأقصى تراجع ميزان المناعة القومي، وثمة اختلالٌ في العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويبقى السؤال الآن: هل تداعيات طوفان الأقصى؛ التي كسرت هيبة المؤسسة العسكرية، ستزيد من الفجوة، أو أن ما قامت به آلة الدمار الإسرائيلية سيرمّم ذلك؟ في تقدير نا إنّ الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو الأوّل، أي ستتراجع العلاقة بين المجتمع والدولة، انطلاقًا من سيناريو الجدل بعد الحرب، حول مسؤولية الفشل، وهو ما يكشف كواليس واقع المؤسسة العسكرية، وبذلك سيزيد من الفجوة والاختلال لميزان المناعة القومي، وهو ما يعني استراتيجيًا زيادة الهجرة العكسية من إسرائيل إلى الخارج، لا سيّما هجرة رؤوس الأموال. ولإدراك أبعاد ما حدث وأسباب الهزيمة المخزية، علينا معرفة التأثير الكبير للأزمة الداخلية العميقة التي تعيشها إسرائيل في ظل الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفًا، ومساعيها إلى تغيير إسرائيل لتصبح دولة ديكتاتورية حتى بالنسبة إلى اليهود، وعلينا معرفة ما كتبه قادة وخبراء وصحافيون إسرائيليون بأنه فشل سياسي واستخباري وعسكري هائل، يدل على هشاشة لم يكن يتصور وجودها في واحد من أقوى وأفضل الجيوش في العالم، ويدل على غطرسة القوة، ويعكس استهتارًا كاملًا وصل إلى درجة العمى الكامل، إلى حد عدم التوقف عند المناورات العسكرية التي أجرتها كتائب القسام وحاكت ما حصل لاحقًا قبل فترة وجيزة من طوفان الأقصى. وقد اظهرت لنا معركة طوفان القدس وعلى سبيل المثال لا الحصر، التدخل الفاضح، أميركياً وغربياً، إلى جانب العدو الصهيوني، وإمداده بالصواريخ والقنابل والطائرات المسيَّرة، وتشكيل غطاء سياسي وغطاء قانوني للإبادة الجماعية التي يقوم بها، بالإضافة إلى غياب شبه كلي للمواقف العربية والإسلامية الجادة، والتي يمكن أن تُفضي إلى وقف العدوان، أو تخفيف حِدَّته، في أقل تقدير، باستثناء بعض المواقف الخجولة، والتي لا تكاد تصلح لتشكيل أرضية صلبة قد تؤدي إلى لجم الهجوم الإسرائيلي.
وإذَا ما نظرنا لخطابات ولقاءات “بايدن” الأخيرة: التي تعمدت سرد عبارات التحيز لكيان الاحتلال ومدى أهميته بالنسبة للإدارة الأمريكية، من خلال مقولته القديمة التي أفصح عنها “لو لم تكون إسرائيل موجودة لأوجدناها”، وغيرها من العبارات، ما ينبئ عن مقدار الاستفادة الأمريكية من توظيف هذا الكيان وتسخيره في ابتزاز حكومات وشعوب المنطقة ومصادرة ونهب مقدراتها، ومقدار الخسارة الأمريكية إذَا ما نجح الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه ومقدساته.
وفي كل المعارك السابقة، كان العدو يسعى لإنهاء القتال من دون اتفاق مُلزم، قد يكبّل يديه عن مواصلة جرائمه في أوقات لاحقة. وعلى رغم أن مجموعة من تلك المعارك نتجت منها اتفاقات تهدئة مكتوبة، وقع عليها رعاة إقليميون وأمميون فإن الاحتلال تنصّل منها على الدوام، ولم يُلقِ لها بالاً.
وستصبح غزة شوكة أمنية وسياسية في وجه المشروع الصهيوني في الأجل القريب والمتوسط حتى يتم تقديم حل أوسع للقضية الفلسطينية برمتها؛ ومن ثم تراجع المشروع الصهيوني الطموح خطوات إلى الخلف. وقد خسرت إسرائيل العلاقة مع روسيا وتركيا وماليزيا وجنوب أفريقيا والعديد من القوى التي كانت تشدها كأطراف محيطة بالعالم العربي.