لا ادري كيف تواردت الخواطر حول نقاشات عشتها قبل سنين مع مجموعة تناولت مسألة الإيمان الديني، خاصة ذلك المتعلق بوجود الله او عدم وجوده. ودارت النقاشات بحدة تخف احياناً وتشتد احياناً اخرى حول السُبل التي يتأسس عليها النقاش والتي تعددت كلما ازداد الخوض في جزئيات هذا النقاش.
فقد ذهب البعض الى نظرية السببية التي تفسر الكون بما فيه وجود خالق كثُرت اسماؤه وتعددت صفاته بين المعتقدات والأديان التي تتبنى نفس هذا الخالق، اي إنطلاقاً لكل خالق مخلوق. ثم نوقشت نظرية الإنفجار العظيم المستمر في احداثه حتى يومنا هذا والمرتبط بالبيئة ومقوماتها. وعرج المتحاورون على نظرية التطور وكل ما نشأ عنها بمعزل عن ارادة غير ارادة الطبيعة التي افرزت الإنتخاب الطبيعي . وغير ذلك الكثير من النظريات والآراء التي تصب في هذا الحوار والتي لا طائل تحتها في كثير من الحالات حيث تنتهي اغلبها بنفس القناعات التي بدأت بها.
إلا ان الذي تذكرته بتفاصيل اكثر في احدى هذه النقاشات يتعلق بالفكرة التي طرحها البعض حول تبني نظرية الإحتمالات المتعددة والتي عرَّفها القائلون بها على اعتبارها المنقذ من تعقيدات مثل هذا النقاش. اما شرحها فهو بسيط جداً إذ انها تضع احتمالين يتبنى الأول : إحتمال وجود الله ، فإن كان الله موجوداً فعلاً فإن الذي انطلق من هذا الإحتمال والإيمان به سيكون هو الرابح في النهاية ، اي الحاصل على ثواب هذا الإيمان الذي اوعدت به جميع الأديان التي تسير على هذا النهج . اما الخاسر الأكبر فهو الذي انطلق من الإحتمال الثاني والقاضي بعدم وجود الله وبذلك ينال العذاب . إلا ان هذا الخاسر سيكون رابحاً إن تحقق الإحتمال الثاني الذي يؤمن به والمنطلق من احتمال عدم وجود الله ، وبذلك يكون المؤمن بالإحتمال الاول هو الخاسر الاكبر الذي قضى حياته منشغلاً بأمل قد يتحقق له بعد مماته ليعيش حياة اخرى سعيدة لا وجود لها حسب الإحتمال الثاني . ملخص الإحتمالين :
الإحتمال الأول: الله موجود
المؤمن به ينال الثواب وبالتالي السعادة بعد الموت ……… الناكر له ينال العقاب بعد الموت
الإحتمال الثاني: الله غير موجود
المؤمن به لا ينال عقاب او ثواب……… الناكر له لا ينال عقاب او ثواب ، إلا انه يخسر كل ما عمله في دنياه انطلاقاً من هذا الإيمان.
في الحقيقة حاولت البحث عن جذور هذه الإحتمالات ، إذ انها داعبت بعض افكاري ، حتى قادني بحثي هذا الى عالم الرياضيات الفرنسي بليز باسكال وهو حسب ويكيبيديا ” بليز باسكال (بالإنجليزية: Blaise Pascal)؛ (19 يونيو 1623 – 19 أغسطس 1662)، فيزيائي ورياضي وفيلسوف فرنسي اشتهر بتجاربه على السوائل في مجال الفيزياء، وبأعماله الخاصة بنظرية الاحتمالات في الرياضيات، وهو الذي اخترع الآلة الحاسبة. استطاع باسكال أن يسهم في إيجاد أسلوب جديد في النثر الفرنسي بمجموعته الرسائل الريفية.”
لقد طرح باسكال هذا الفكرة التي تقول ” مهما قلت الدلائل على وجود الله ، فإن العقوبة التي تنتظر الإختيار الخاطئ هي اكبر. احكم الطرق هي الإيمان بالله ، لأنك لو كنت مصيباً ستربح النعمة الكبرى ولو كنت مخطئاً فلن يكون هناك فرق. بينما إن لم تؤمن بالله وكنت مخطئاً فانت محكوم للعنة الأبدية ولو كنت مصيباً فلن يكون هناك اي فرق . وعلى ذلك فالقرار لا يحتاج الى ذكاء، عليك الإيمان بالله “”.
من الطبيعي ان يكون الحديث عن الإيمان الديني متعلقاً بالإيمان بوجود رب هذا الدين او ذاك مع اختلاف تسمياته عند الأقوام المختلفة المؤمنه به وبدينه. وحسب ما تأتي به الأديان من تعاليم ايمانية تضع الإيمان بالله ايماناً مطلقاً لا يقبل الشك او التأويل. وبالرغم من الإعتقاد الديني بان الشك قد يقود الى الإيمان كما جرى لأبي الأنبياء ابراهيم مثلاً او ما تبلور عنه ايمان ابو حامد الغزالي الذي سبقته الشكوك ايضاً، فيما يخص الإيمان الإسلامي. او الإيمان لدى ماركوس الذي حارب المسيح ثم اصبح احد حوارييه وناشر دينه ، وغيرهم ، فإن الإيمان الذي مارسه هؤلاء بعد التخلص من شكوكهم ، كان ايماناً مطلقاً لا يجوز النقاش حوله. اي ان نظرية الإحتمالات التي اطلقها باسكال تصبح لا فائدة ترجى منها هنا ، بل بالعكس فإنها ستكون موضع العذاب لا الثواب على ممثلي هذين الإحتمالين سوية ، وليس بينهما من ينال الثواب حتى ذلك الذي انطلق من تأكيد الإحتمال الأول بوجود الله، وبالتالي نسف نظرية باسكال والنتيجة التي جاء بها وختم بها احتمالاته حينما قال ” وعلى ذلك فالقرار لا يحتاج الى ذكاء ، عليك الإيمان بالله ” .
فكيف يمكننا تفسير ذلك وخسارة الذين ينطلقون من الإحتمالين سوية، بالرغم من وجود من آمن بالإحتمال الأول وهو وجود الله ؟
يفسر لنا ريتشارد دوكنز خطأ هذين الإحتمالين حينما يقول ” ورهان باسكال ليس اكثر من حجة للتظاهر بالإيمان بالله . والأفضل للأله المزعوم ان لا يكون عالماً بما في الصدور وإلا لأستطاع كشف هذا التحايل ” ( ريتشارد دوكنز ، وهم الإله ، ترجمة بسام البغدادي ، الطبعة العربية الثانية ، ص 106).
لقد وجدت في هذا التفسير لإحتمالات باسكال منطقاً علمياً ينطلق من واقع عقلي ، ومثل هذا المنطلق لا يمكن ان يمارسه إلا من ينظر الى الإيمان الديني ، خاصة الإيمان بالله ، نظرة تربط هذا الوجود الإلهي بكل ما يتصف به من سعة العلم وعمومية المعرفة التي لا حدود لها. وهذا يعني ان الله بمواصفاته باعتباره يعلم كل شيئ ويكشف عما في الصدور، فإنه يعلم ان صاحب الإحتمال الأول ما هو إلا منافق مع نفسه ومع ما يؤمن به حينما ينطلق من وضع احتمال الوجود جنباً الى جنب مع احتمال عدم الوجود، داعياً الى تبني احتمال الوجود لضمان الطريق الأسلم والأضمن بعد الموت، كما يراه هو وانسجاماً مع شكوكه.
إن مثل هذا التصرف المنافق قد يجعل من هذا الشخص منافقاً ليس في مجال الإيمان الديني فقط ، بل في كافة مجالات الحياة الاخرى ، وبذلك فإنه سيظل ينخر في المجتمع كالجرثومة التي تنخر في الجسم.
مَن يفكر بعض الشيئ في الإيمان الديني الذي يسود مجتمعنا العراقي اليوم والذي افرزته سلطة الأحزاب الدينية التي اصرَّت على ان تكون مرجعاً دينياً وسياسياً وعلمياً وثقافياً وتجارياً ايضاً في نفس الوقت،فسوف لن يصل الى نتيجة غير القناعة بان هذا الإيمان ما هو إلا ايمان الإحتمالات الذي يحول فكر الشك الى ممارسات تمويه وخداع وتسويف ونفاق يتلقفها مَن يسير بالمجتمع ، تحت رايات هذه الأحزاب ، الى ممارسات لا تجلب إلا خراب البلاد وإنهاك وإذلال العباد. وهنا لابد لنا من استثناء القلة القليلة من المؤمنين بقناعة الإيمان المطلق وليس الإحتمال والذين يمكن تمييزهم عن اكثرية مؤمني الإحتمالات بابتعادهم عن مثل هذه الأحزاب الدينية واطروحاتها كمجهولية مالك المال العام الذي يجيزون الإستحواذ عليه باسم إله الإحتمالات الذي يؤمنون به ، وغيرها من اساليب الغش والخداع واللصوصية التي يمارسونها باسم هذا الإله.
سلوك النفاق الذي يلتف بالرايات الدينية هو اخطر سلوك قد يتعرض له مجتمع من المجتمعات وذلك بسبب ما تلتصق به من قدسيات كاذبة تصبح السلاح الذي يُقتل به كل مَن يقول لها مجرد لا. فكيف يمكن لأي ذي عقل ان يسمح لنفسه بان يقول لا لأطروحة النفط كالمطر يحق لكل فرد ان يتصرف به كما يشاء، فالأول يخرج من الأرض والثاني ينزل من السماء، فهل يجب عليك الحصول على إجازة من احد حينما تستعمل ماء المطر ؟ كلا طبعاً ، وهذه الكلا تصلح لما يخرج من الأرض كما تصلح لما ينزل من السماء. مو لو مو مو ؟