التفسير الإسلامي للماضي التاريخي – د. قبات شيخ نواف الجافي

 

الجميع يعلم بأن أصول الكتابة والمعرفة التاريخية تعتمد على الوثيقة أساسا (هذه الوثيقة قد تكون: نص مكتوب، قطعة معدنية، بناء قديم…الخ)، بدون هذه الوثيقة تصبح الكتابة في التاريخ أقرب وهي كذلك، إلى نص أدبي يحتوي على عناصر خيالية سردية بدون محتوى علمي. والتاريخ ببساطة شديدة علم (أو فن حسب رأي البعض)، يتطرق الى دراسة الماضي بطريقة علمية منهجية معتمدا على الأدلة والمعطيات والشواهد الأثرية. والتفسير الإسلامي للتاريخ بالإضافة الى ما تم ذكر يتبع سنن الله في الكون.

وفي هذا المضمار، لطالما أبدى المسلمون الأوائل اهتمامًا بماضي وتاريخ القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث يعتبران المصدرين الأساسيين للدين. يتطلب فهم وتفسير القرآن الكريم والسنة النبوية- أن يكون للآثار الحاضرة للأحداث الماضية (منظور تاريخي بحت) أهمية بالغة في حياة الإنسان وتأكيدا على مبدأ الاستمرارية التاريخية للحدث. وقد جعل بعض علماء المسلمين من تدوين الأحداث الماضية مهنة لهم، سواء أكانت لها صلة مباشرة بالقرآن الكريم والسنة أم لا. وغالبًا ما كتبوا “التواريخ العالمية”، من آدم إلى عصرهم، ناهيك عن أنواع أخرى من الروايات التاريخية. وهكذا كثيرًا ما استخدم المؤرخون المعاصرون المخضرمون أمثال: (عبد العزيز الدوري صاحب كتاب: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام) جواد علي- علي الوردي- هشام جعيط-عبد الله العروي وآخرون) كتابات المؤرخين المسلمين القدامى وملاحظة مواقفهم التفسيرية للحدث التاريخي. ومن المؤرخين القدامى نذكر الطبري شيخ المؤرخين وامام المفسرين، صاحب كتاب (تاريخ الطبري- تأريخ الأمم والملوك)، وابن كثير صاحب كتاب (البداية والنهاية) وكذلك المسعودي صاحب كتاب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) وأيضا أبن الأثير الجزري صاحب كتاب (الكامل في التاريخ) ولا ننسى السيوطي صاحب كتابي (الشماريخ في علم التاريخ-تاريخ الخلفاء..) وغيرهم كثير. حيث تعتبر كتبهم المادة الخام الأولى أو ما يطلق عليه (أمهات الكتب) لدراسة التاريخ الإسلامي.  وهنا يجب ان لا ننسى جهود العلامة المفضال ابن خلدون صاحب كتاب (المقدمة) الشهير في توضيح العلل التفسيرية للحدث التاريخي، حيث أحدث تحولا جذريا في الكتابة التاريخية عند المسلمين التي كانت في كثير من الأحيان تتبع المنهج الوصفي السردي.

يعتبر التفسير الإسلامي للأحداث بالنسبة للغالبية العظمى من المسلمين أمرا أساسيا. فأحاسيسهم تجاه الماضي إلى حد كبير تشكلت من خلال النظرة القرآنية للعالم والتي بدورها تتحدد من خلال التوحيد.. فكل ما حدث في الماضي كان آية من آيات الله. ومن ثم، فإن أهمية الماضي كانت راسخة بالفعل قبل أن يتعلم الناس أي شيء عن تفاصيل الحدث. والقرآن الكريم يحثّ الناس مرارًا وتكرارًا على الاتعاظ والاعتبار من خلال سرد قصص الأنبياء: في كل حالة تقريبًا، يسرد القرآن الكريم المحن والابتلاءات التي مرّ بها الأنبياء، ليوضح أن الناس لم يتغيروا. كان المكيون يعاملون محمدًا (ص) كما كان بنو إسرائيل يعاملون أنبياءهم لأن الغفلة عن الله ورسالاته متجذرة في الحالة البشرية. ومن وجهة النظر الإسلامية، فإن الناس في غفلة دائمة عن مغزى التاريخ، ويجب تذكيرهم دائمًا. فالقرآن لا يأخذ قصص الأنبياء كعلامات على عمل الله في التاريخ فحسب، بل يأخذ كل ما وصل إلى سامعيه من علوم الماضي كعلامات على الماضي، ويأخذ الآثار الغالبة للثقافات والحضارات السابقة وكيف اندثرت كعلامات تاريخية. تقول الآية: “كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ”. (القصص, 88). أذا فالحضارات البشرية زائلة لا محالة وهي تتبع حلاقتاها وأطوارها المتعددة ضمن الدائرة الكبرى لها. وفي النهاية تنتج الحضارة مظاهر ثقافة مادية لنا من: فنون وفكر وعلوم وآداب وعمران… ولكن في النهاية كل حضارة تنشيئ وتخلف ورائها ثقافة ذهنية عقلية ينظر بها أبنائها من وجهة نظر خاصة تجاه قضايا الخلق، الحياة، الكون، الوجود، الأيمان.. ومن المفكرين المسلمين المعاصرين الذين تحدثوا عن الحضارة وعوامل نموها، ازدهارها وسقوطها المفكر الجزائري مالك بن نبي صاحب كتابي (شروط النهضة والظاهرة القرآنية) والذي تأثر بدوره بشكل كبير بفكر ابن خلدون الاجتماعي-التاريخي. وهكذا يكون الله وحده هو الباقي الأزلي الخالد وهو الملاذ الآمن من كوارث الزمن ومصائبه في عقيدة وذهنية وحتى مخيال الانسان المسلم والمؤمن بشكل عام.

يتحدث القرآن الكريم عن المآل أو النهاية (العاقبة) للأقوام الماضية في العديد من الآيات. ويطلب من قارئه أن يفكر في عدد الشعوب والحضارات السابقة التي أهلكها الله بسبب ظلمها. وفي هذا السياق، يوصي القرآن الكريم بـ “السير في الأرض” كوسيلة لتوسيع آفاق المرء وفهم زوال الروابط المحلية والقضايا الدنيوية العالمية. القران الكريم يعظ الناس على الانفتاح وعلى تملك رؤية واسعة للأشياء ليتمكنوا من رؤية صفة العدم المتزامنة للجنس البشري. يوضح القرآن بأنه قد انقضى الكثير من طرق الحياة قبلكم من نصرٌ بعد هزيمة، وعِزٌّ بعدَ ذُلّ، ورِيادةٌ بعد تبعِية.. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين). آل عمران 137.  كما قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ آل عمران 140. بمعنى أنه تكون هنالك أيام مجيدة وأيام أخرى حزينة ومؤلمة. شدة ورخاء، عسر ويسر ولكن العاقبةَ دائمًا للمؤمنين القانعين الصادقين. وهكذا يكون جوهر التفسير الإسلامي لمجرى أحداث التاريخ، بالإضافة للعوامل الدنيوية، يتبع سنن الله في الكون كما أشارت الآية رقم 140 من سورة آل عمران اليه للتو. وفي هذا السياق، وأيضا تطرق المؤرخ العراقي عماد الدين خليل الى هذه الجزئية في كتاباته عن النهج الإسلامي لتفسير التاريخ.

على النقيض من ذلك، المدارس التاريخية الحالية وخاصة الغربية (ألمانية-فرنسية بالدرجة الأولى)، التي ترجع ظهور الحدث وتفسير التاريخ الى عوامل مادية وسياسية واقتصادية واجتماعية…الخ وهذا صحيح الى حد بعيد، ويفهم منها كأسباب دنيوية لعوامل القيام والسقوط والقرآن الكريم أشار الى ذلك ولكن، الأسباب الدنيوية وحدها أذا ما اجتمعت لا تؤدي بالضرورة الى قيم حدث ما. على سبيل المثال، الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي. لقد هيأ ماركس وأنجلس معتمدين على فلسفة هيجل، مجتمع العمال (الطبقة العاملة)، في ألمانيا وإنكلترا أبان الثورة الصناعية والتي أحدثت وأوجدت صعوبات وتحديات لطبقة العمال وصغار الكسبة، مما أضطر التنظيم العمالي النقابي في ألمانيا وإنكلترا للمطالبة بالخدمات الاجتماعية والضمان الاجتماعي والمساوة، وبالتالي القيام بثورة مجتمعية لذلك الغرض. ألا أن من قام بالثورة (1917)، في حقيقة الأمر، كانوا الفلاحين السوفييت البسطاء (أيام روسيا القيصرية) الغير منظمين في أي تنظيم نقابي والذين لم يكن لديهم أي فكر نقابي منظم كالعمال الألمان والإنكليز. ولو كان ماركس وأنجلس أحياء وقت قيام ثورة المنجلة والحصادة البدائية، لأصيبوا بالدهشة حقا لما آلت اليه الأمور. وهكذا، تهيئة الظروف المناسبة لحدث ما ليس ضمانة بأنه سيقوم وينجح. أضف الى ذلك تاريخيا، ما قام به فرقة الحشاشين الإسماعيلية من تحالفات مع السلاجقة في حلب وقتالهم والاصطدام معهم في خرسان (قلعة الموت). وحقيقة هنا يأتي الدور المفصلي للمؤرخ والباحث الحاذق عن فهم وتعليل وتفسير هذه الارتباطات المتناقضة والكشف عن جوهر التعارض في الفكر التاريخي.

ختاما، ليس من السهل ابدا تفسير الأحداث البشرية التاريخية من منظور محدد ضيق. فهي تحتاج لفهم أوسع لحياة البشر ولحركة الحضارة خلال حلقاتها المتعددة وأسبابها المادية ضمن مناهج عقلية رصينة ولكن الأهم من ذلك كله فهم حكمة الله وسننه في الكون والخلق والتاريخ.