الاحتفال بهذا اليوم تحديدا وليس بعد طرد العثمانيين من المنطقة، اعتراف مباشر وخير أثبات على أن سوريا، بجغرافيتها الحالية، دولة لقيطة، كونتها فرنسا من العدم حسب مصالحها والبريطانيين. رغم أن الفرنسيين قتلوا جدي (عباس محمد عباس) غدرا عام 1923م وتم الثأر له منهم في موقعي بياندور ودياري مالا عبيس وسمي لا حقا بدياري توبي، وجلي الفرنسيون عن منطقتنا قرابة ثلاثة سنوات وخلفت نوع من الاستقلال الذاتي لتلك المنطقة، إلا أن الجلاء التام في 17 نيسان عام 1946م عن سوريا لم تخلف أي نوع من الحرية، وبعد سنوات شعرت الشعوب السورية بأنهم انتقلوا من مستعمر خارجي إلى محتل داخلي حكمت بالدم والإجرام، دمروا بها الفكر وثقافة الشعوب السورية عامة، وهدموا التآلف بينهم، وكانوا السبب في عدم تحول الدولة السورية الوليدة إلى وطن يجمع الشعبين العربي والكوردي، وتزايد تدميرهم للمجتمع سنة بعد أخرى وبشكل خاص تدميرهم للشعب الكوردي، إلى أن أصبح السوريون جدلا يتأسفون على جلاء المستعمر.
رغم مرور قرن على الجلاء، لم تتحول سوريا إلى وطن للمكونات القومية التي تم حصرهم فيها قسرا ودون إرادتهم، تسلطت عليها سلطات عربية عنصرية، أجرمت بحق شعوب سوريا عامة ومن بينها شعبها العربي، وأبقت الجزء المقتطع من كوردستان، الذي ضم إلى سوريا ليتم تكوينها على الشكل المعروف حاليا، خارج معادلات الاحتفال بالجلاء، لأن الشعب الكوردي ظل يعاني الويلات، ولم يشعر يوما بأي جلاء عن كاهله، بل لا يزال ثقل الاحتلال الممتد من مرحلة العثمانيين مرورا بالفرنسيين إلى جميع السلطات العروبية التي حكمت سوريا إلى اليوم مستمرا. وخير مثال ما يعانيه أبناء منطقة عفرين من ظلم المحتلين، وشعوب المناطق الأخرى من جرائم النظام الذي كان يحكم كلية سوريا قبل عقد ونيف.
مجريات الأحداث تؤكد على أنها لن تتحول إلى وطن، ليس فقط بالنسبة للشعب الكوردي بل وللعربي ذاته الذي أصبح وطنييهم يغيبون بشعورهم عن الوطن يوما بعد أخر، لذلك وعلى الأرجح سيتم إعادة رسم خريطتها وبعض الدول المجاورة بعد قرن من تكوينهم. فالاحتفال بالجلاء كذبة تم تسخيرها طوال نصف القرن الماضي لتمرير مصالح السلطات الدكتاتورية الفاسدة دون شعوبها.
وللتغطية على هذه الولادة القيصرية، وظهور الدولة السورية، تلاعبت الأنظمة المتسلطة عليها بتاريخ وثقافة شعوبها، وخلقوا كراهية بينهم من خلال نشر ثقافة عنصرية، وتجنيد شريحة من الكتاب المنافقين للمهمات الخبيثة، في مقدمتها مهاجمة الشعب الكوردي، ونشرهم مفهوم الكورد المهاجرين إلى سوريا من خارج حدودها، وتناسوا ولادتها من العدم الجغرافي، إلى درجة لم يقدموا للشعب الكوردي يوما خدمة وطنية صادقة ليحس بأنه ينتمي إلى سوريا كوطن، لذلك لم يشعروا يوما بأنه كان هناك جلاء عن جغرافيتهم، شرق وشمال مجرى الفرات وشمال حلب، لأن الذين حلوا مكان الفرنسيين كانوا أثقل وطأة وطغيانا منهم وربما من العثمانيين أيضاً.
خلقوا للوليد اللقيط تاريخ من السراب، ومنه معنى يوم الجلاء، أي يوم الحرية وبناء الوطن، والذي لم يظهر لهما وجود في سوريا، بمعية المنافقين في التاريخ، ونشرت السلطات ما هب ودب من التحريفات والتزوير والفجور الثقافي.
لو كانت سوريا وطن، ودولة على سوية الجغرافية التي ظهرت بها في بداية القرن الماضي (آخر مراحل تكون حدودها كانت في عام 1936م) لكانت عليها أن تحتفل باستقلالها يوم خروج الإمبراطورية العثمانية أي عام 1916م وليس سنة ويوم خروج فرنسا منها، فيوم الجلاء الحقيقي هو يوم زوال الاحتلال العثماني الكارثي من المنطقة، والذي دام قرابة ستة قرون ولم يقدم سوى الدمار والخراب لها، مقابل ما بنته فرنسا فيها خلال 25 سنة.
السلطات الدكتاتورية دمرت ذهنيتنا نحن شعوب الشرق، وجعلت معظمها كالحاضنات الفارغة تملأها بما تخدم مصالحها، وجلها من المعلومات الملوثة، وجعلت يوم الجلاء رحمة مقارنة بما يعانيه الشعوب السورية حاليا، ولربما الجلاء الأنقى اليوم لسوريا هو جلاء النظام المجرم عن السلطة، وطرد تركيا مع أدواتها ومرتزقتها والميليشيات الإيرانية منها، وحينها سيكون الاحتفال باستقلال سوريا كوطن.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
18/4/2024