عملية الهيمنة، والتي قد تكون هي نفسها أحد النتائج الفرعية لعملية العولمة في مرحلة تطورها الراهن، فقد أفرزت موازين للقوة غذَّت طموح ونهم الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على العالم. فهناك فجوة كبيرة بين حجم ونوع ما تملكه من وسائل القوة، بمعناها الشامل، وما تملكه القوى الأخرى المتنافسة على قمة النظام الدولي كالاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية والصين، وربما اليابان أيضا. وتحاول الولايات المتحدة استخدام هذه الفجوة لتسخير قوى وآليات عملية العولمة لصالحها وعلى النحو الذي يمكنها من السيطرة على النظام الدولي مستفيدة من حالة الارتباك والفوضى التي تميز المؤسسات الدولية في الوقت الراهن. وفي هذا السياق تروج الولايات المتحدة لمبدأ “التدخل الإنساني” وتتوسع في تفسير مفهومه، لكنها تخلط عمدا بين إرادتها هي وبين إرادة المجتمع الدولي معتبرة أن إرادتها الخاصة تعبّر بالضرورة عن إرادة الشرعية الدولية. ويصب هذا الوضع في اتجاه إضعاف المؤسسات الدولية وطمس شفافيتها ودعم النزعات الفاشية والإرهابية. لقد شكل مبدأ السيادة الإطار العام والمبدأ الأساس الذي تتفرع عنه باقي المبادئ القانونية الحاكمة للدولة وعلاقاتها مع أشخاص القانون الدولي الأخرى، فمنذ عهد “واستفاليا”سنة 1648” والذي انبثق عنه مبدأ عدم التدخل، والذي أكده ميثاق الأمم المتحدة طبقًا للمادة2/7 والمادة2/4، وأكده أيضًا القرار الأممي رقم 2131 الصادر عن الجمعية العامة والمتضمن عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحماية استقلالها وسيادتها، إلا أنه في حالة الانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الإنسان يقع على عاتق المجتمع الدولي حسب البعض واجب التدخل لاعتبارات إنسانية، غير اننا نرى بأن التدخل الإنساني مجرد غطاء من أجل السيطرة المستمرة على الدول الضعيفة أو ما اصطلح عليها الفكر الغربي بالدول الفاشلة، وهو ما يدخل ضمن إستراتيجية فرض العولمة ودمقرطة الأنظمة العربية وفق النظرة الغربية. إن القيمة الكبرى التي تجلت في اتفاقية وستفاليا هي إلغاء فكرة الغزو، التي كانت شرعية ومعترف بها في العالم أجمع، هذه الفكرة هي التي حالت دون نشوء نظام عالمي، ومن حينها أصبحت فكرة النظام من المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها علم العلاقات الدولية والتي تهدف إلى اكتشاف أنماط التفاعل في السياسة الدولية. أن أوروبا هيمنت على سائر القارات في العالم بعد توقيع اتفاقية وستفاليا 1648 م وتوابعها، وبرزت الدولة القومية كفاعل وحيد على المسرح الدولي، حيث ألغيت فكرة الحرب والغزو والإلحاق داخل القارة، واستمرت شرعيتها وأدواتها خارج القارة، فيما يعرف بحركة الاستعمار الأوروبي، ما أدى إلى تراكم هائل للثروة والموارد لدى النظام العالمي في تلك الفترة. ومع انحسار الاستعمار وتحرر العديد من الدول ذات السيادة واتساع التنظيم الدولي ليشمل كل الكوكب، طور النظام العالمي من أدواته وفواعله العالمية كالشركات العابرة للحدود والمنظمات العالمية والمؤسسات الدولية للحفاظ على هيمنته وسيطرته، ما أدى إلى تراجع أهمية الدولة كفاعل وحيد لحساب الفواعل العالمية الأخرى.
وجود التوازن بين دول أو مجموعة من الدول ادى الى قيام النظام العالمي ،لما لها من المقومات وعناصر القوة ما يؤهلها لأن تفرض الاعتراف بها والتعامل معها كطرف قائم بذاته ويكون كفؤ للآخرين . فهو في الأخير تعبير عن حالات من التوازنات المعقدة التي تحصل في حقول متعددة، كالقوة العسكرية أو الاقتصادية أو التكنولوجية أو الإعلامية أو الثقافية أو الديموغرافية، أو الموقع الجيوسياسي أو الوضع السياسي الداخلي…الخ، وكلما أحرز بلد ما الريادة في ميدان أو أكثر من هذه الميادين، فإنه سيعتبر نفسه أصبح من حقه أن يشارك في صناعة القرار على الصعيد العالمي، وأن يسمع رأيه في المحافل الدولية ويفرض وجهة نظره، وإن اقتضى الأمر تمرد على النظام العالمي القائم وسعى إلى تقويضه. و أهم ما يواجه النظام العالمي وتحولاته هو تعريف المصطلح وتحديد المفهوم، فالدراسات الجادة والرصينة تبدأ بتحديد المفاهيم وتعريف المصطلحات ، فالمصطلحات المتداولة في أدبيات العلاقات الدولية كالنظام العالمي والتنظيم العالمي، تسودها الضبابية والتشابك، ويعود ذلك إلي القدر الواسع في الاختلاف والتباين في الآراء بين الدارسين والباحثين في مجال العلاقات الدولية. فالنظام العالمي هو حالة توازن بين الدول، وليس بين الأفراد أو بين جماعات ما قبل الدولة، وبالتالي فلم يكن ممكنا أن يقوم النظام العالمي الحديث إلا بعد انبعاث القوميات وانتظامها في دول ذات سيادة. ما يؤكد أن اللبنة الأولى في بناء النظام العالمي هي مفهوم السيادة نفسه، إذ هو يمثل الاعتراف (بمواطنة) الجماعة القومية أو الجغرافية في النادي العالمي للدول. وعلى الرغم من أن الدولة ما زالت هي الأكثر أهمية في الوحدات المكونة للنظام العالمي، وفي تحليل العلاقات الدولية، إلا أننا نؤكد على أهمية “بروز أشكال جديدة من الفواعل الدولية، كالشركات والمؤسسات والمنظمات التي تنافس الدولة وتعمل على تقويض سيادتها”. كما يعتمد النظام العالمي علي تمثيل الدول والمؤسسات تبعا لأوزانها النسبية، ولا يعتمد مبدأ المساواة والعدالة بين الدول، وهذا بالطبع يعطي الدول الكبيرة والقوية النفوذ الكافي في العالم وإمكانية التأثير في القرارات العالمية. ” وقد أدت تحولات ومتغيرات النظام العالمي إلى بروز فواعل أخرى منافسة للدولة داخل نظام عالمي أوسع من نظام الدول، ووجهت انتقادات شديدة للأفكار الأساسية عن النظام العالمي، فالنظام العالمي ينظر إليه بوصفه نظاما من التفاعلات التي يلعب فيها فاعلون آخرون، من غير الدول، أدوارا مهمة حول موضوعات سياسية واقتصادية جديدة، تخلق عمليات جديدة في النظام تتجه به إلى نوع من التعاون أو التكيّف وليس إلى العنف والصراع دائما”. “ولا يمكن القول إن النظام الدولي قد اختفى تماما ليحل محله نظام عالمي جديد مئة بالمئة، فالدولة المكون الأساسي للنظام الدولي التي كانت تحتكر العمل السياسي قبل أن يصيبها الخلل والاضمحلال، وما زالت الدولة موجودة، وإن كان تراجعها أدى إلى تغيرات هيكلية تفرض نفسها على الأجندة الدولية بوتيرة أسرع مما كان عليه الحال قبل عقود من الزمن، ما يؤكد أننا نعيش حاليا في مجتمع عالمي ونظام عالمي هجين مختلط، أي أنه يحتوي القديم والجديد جنبا إلى جنب”,
ومرحلة توازن القوى بدأت منذ معاهدة وستفاليا سنة 1648 والتي أنهت الحروب الدينية، وأقامت النظام الدولي الحديث المبني على تعدد الدول القومية واستقلالها، كما أخذت بفكرة توازن القوى كوسيلة لتحقيق السلام وأعطت أهمية للبعثات الدبلوماسية، وتنتهي هذه المرحلة بنهاية الحرب العالمية الأولى “. في هذه المرحلة ” كانت الدولة القومية هي الفاعل الوحيد في السياسة الدولية، ولم تعرف هذه المرحلة المنظمات الدولية ولا المؤسسات غير القومية مثل الشركات العالمية، وكانت قوة الدولة مرادفة لقوتها العسكرية، وكانت أوروبا تمثل مركز الثقل في هذا النظام. أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت في موقع طرفي من هذا النظام، ولم يكن لها دور فاعل نتيجة سياسة العزلة التي تتبعها “. وكانت الفكرة القومية هي الظاهرة الأساسية في النظام الدولي، فهي أساس قيام الدول وأساس الصراع بين المصالح القومية للدول، ولم تكن الظواهر الأيديولوجية الأخرى قد ظهرت بعد، مثل الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية وغيرها “. *بدأت مرحلة ثنائية القطبية من الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. حيث اتجه النظام بعد الحرب العالمية الثانية نحو نظام الثنائية القطبية بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمرييكية، وتوسعت قاعدة النظام الدولي ومراكز القوى خارج أوروبا. وخلال هذه المرحلة ظهرت الأيديولوجية كإحدى أهم الظواهر في المجتمع الدولي، وأخذ الانقسام داخل النظام الدولي طابع الصراع الأيديولوجي بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الغربي الرأسمالي، وتبع ذلك ظهور عدد من الظواهر مثل الحرب الباردة والتعايش السلمي والوفاق الدولي وغيرها “. وتميز نظام القطبية الثنائية بوجود مركزين متفوقين من مراكز القوى الدولية، ويحيط بكل مركز منها عدد من الدول التابعة والأقل كثيرا في إمكانيات القوة ومقدراتها، ويكون حق التوجيه ورسم السياسات واتخاذ القرارات احتكارا للدول المسيطرة في داخل كل واحد من هذين المركزين من مراكز القوى الدولية”.
وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي المريع بعد هدم جدار برلين عام1990 ادى الى انفراد الولايات المتحدة الامريكية في النظام الدولي. مما ادى الى اقتران علاقة سلبية بين النظام العالمي وسيادة الدولة. بمعنى كلما تطور النظام العالمي أثر سلبا على سيادة الدولة . نفترض وجود علاقة اقتران موجبة بين ضعف الدولة وزيادة التدخلات الخارجية، بمعنى كلما تفككت الدولة وضعفت، كلما كان ذلك مدعاة لتدخل النظام العالمي للمشاركة في النزاعات الوطنية وتدويلها. والعكس صحيح أي كلما قويت الدولة وتماسكت مع غيرها يقل فرص النظام العالمي للتدخل وتدويل النزاعات الوطنية دون الاعتبار لمبدأ السيادة . تعاظمت محنة سيادة الدولة في منطقة الشرق الأوسط، كنتيجة مباشرة لتدخلات النظام العالمي المتنوعة من جهة، ونمو الفواعل الداخلية الأخرى أو مكونات ما دون الدولة كالتنظيمات والأقليات الدينية والعرقية التي أصبحت تتحدى الدولة وتعمل من داخلها دون الاعتبار لسيادتها من جهة أخرى. يعتمد النظام العالمي بوصفه مشروع للسيادة العالمية على عدة فواعل متنافسة وغير متناقضة، كالدول والشركات والمؤسسات والبنوك والأفراد، تعمل جميعًا في نسق واحد للسيطرة والهيمنة الدائمة على الدول النامية ، ودول عالم الجنوب عموما واستباحة سيادتها، حيث كانت المنظومة الدولية قديمًا تتكون من الدولة كفاعل وحيد على المسرح العالمي، أما في السنوات الأخيرة فقد طرأت زيادة مهمة في وزن (لاعبين لا يمثلون دولا).
إن إعادة تعريف مفهوم السيادة في دول الشرق الأوسط استجابة لظاهرة العولمة أمرًا حيويًا، على اعتبار أنها ظاهرة تاريخية، ومسار لعملية مستمرة نحو العالمية، وبوصفها نمط من التطور الإنساني الذي حوّل العالم إلى قرية صغيرة يخلط بين الاختصاص الوطني والاختصاص العالمي. بيد أن رفض دول منطقة الشرق الأوسط لتدخلات النظام العالمي وتمسكها بسيادتها كفكرة دفاعية في مواجهة النظام العالمي أمر مطلوب وحيوي، للحد من نزعته الدائمة للتوسع والهيمنة والسيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية.