تنازل تركيا لبشار الأسد، تأكيد على أنها لم تعد تلك الدولة التي كانت تطمح بإعادة أمجاد السلطنة العثمانية، دولة لا يمكن أن تتحول إلى وطن، مبنية على السياسة الميكيافيلية، والحقد والكراهية والإجرام، من السهل لها أن تتخلى عن حلفائها وتتعامل مع المجرمين والأبالسة، دون رادع أخلاقي، الصفقة بينهما من على طاولة بوتين أكثر من مجرد قذرة، بحق الشعب السوري، وجلها موجهة لمحاربة الإدارة الذاتية والحراك الكوردستاني وقوات قسد، والتي ستقابلها إذابة المعارضة العسكرية في إدلب ومنطقة عفرين، وطرد المهاجرين إلى مصير مجهول، في جغرافية مدمرة، إنها صفقة تنعدم فيها القيم والمبادئ الإسلامية.
تركيا ليست بحاجة إلى سلطة بشار الأسد الغارقة في الإجرام، الصفة التي كثيرا ما كررها أردوغان بذاته، والتطبيع مع مجرم على مقاس الأسد كالتوجه نحو مستنقع آسن، لولا أنه يضحي بكل القيم ومستعد لكل الخسارات للحد من تصاعد القضية الكوردية بشكل عام، والإدارة الذاتية بشكل خاص، وقد كان البند الأكثر أهمية في معظم مؤتمرات سوتشي وأستانه، فرضها على إيران وروسيا والمعارضة والنظام في دمشق، كما وعلى عتبات تقاطع المصالح، تمكن من تحييد أمريكا لتدمر معظم البنية التحتية لغرب كوردستان، لتنتهي بتركيا اليوم وبعدما فشل في تحقيق هدفه، وهو إزالة القضية الكوردية من على الساحة الدولية، والقضاء على الإدارة الذاتية، إما مواجهة أمريكا وقتل المدنيين في غرب كوردستان، باجتياح عسكري، وهو انتحار سياسي، أو التنازل لأكبر مجرم في الشرق الأوسط، وقبول شروطه، وبيعه المعارضة بأبخس الأثمان، مع الاحتفاظ بقسم منهم لتحويلهم إلى مرتزقة، لمحاربة الكورد.
السياسيون كالعاهرات، تنعدم فيهم القيم والأخلاق، بإمكانهم أن يخرجوا عراة أمام الشعب، ويبيعوا حلفائهم لبلوغ الغاية. الناجح فيهم من يتقاطع مصالحه وحزبه مع مصالح الشعب، وهي واضحة لدى المجتمعات الحضارية، بعكس الدول الغارقة في الطغيان والأحزاب الشمولية، والمختفية تحت الشعارات البراقة كالديمقراطية، فيتم خداع الشعب من أجل مصالحهم الذاتية والحزبية.
أردوغان يتوسط الحالتين، فكل ما قدمه لتركيا، كانت لمصلحة حزبه المتقاطع مع مصلحة الشعب في العقدين الماضيين، واليوم، وبعد فشله في الانتخابات الأخيرة، وابتعاد الشعب عنه، أصبح يعيد إحياء تجاربه السابقة وعلاقاته الماضية، لإنقاذ ذاته من الانهيار المتسارع اقتصاديا وسياسيا، خاصة بعدما بدأ معارضيه يتحدثون عن احتمالية إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ومثل هذا الحديث يتم عادة عندما تكون الجهة المطالبة على قناعة بنجاحها، وهي التي ترى الشارع التركي المتأفف من الواقع الجاري.
ولتجاوز المحنة، أصبح يحرك:
1- الصور النمطية عن الكورد وقضية كوردستان، المترسخة في ذهنية السياسيين العنصريين الأتراك وخاصة الذين يشعرون بنقص ما في انتمائهم إلى العرق التركي، أمثاله وهاقان فيدان، وفي الحقيقة أغلبية الذين حكموا تركيا لم يكونوا أتراك، حتى ولو تخلينا عن أنسابهم من ناحية الأم، وحيث جميع أمهات السلاطين بعد سليمان القانوني، وحتى أتاتورك لم يكونوا من العرق التركي، وبالتالي فهم وراء زيادة الحقد تجاه القوميات الأخرى في تركيا وفي مقدمتهم الشعب الكوردي، وهو صاحب قرابة نصف جغرافية تركيا الحالية، وضد اليونانيين أصحاب غرب تركيا، واللاظ وسط شمال تركيا.
2- إخماد بعض خلافاته الدولية والإقليمية، كمواجهته لأمريكا والناتو، وقبول شروط مصر والسعودية على قيادة العالم السني، وعدم التحدث عن رئاستها، والتخلي عن حركة الإخوان المسلمين، ويتذبذب حول قضية غزة ومواجهة إسرائيل.
3- التركيز على القضية الكوردية والإدارة الذاتية في غرب كوردستان، بعدما بدأ يتحسس باحتمالية تقسيم جغرافية تركيا. أصبح يقوم بردم الشرخ بين النظام والمعارضة لتأليبهم معا على محاربة الكورد، إن كان مباشرا أو تحت غطاء محاربة الإدارة الذاتية.
فمسيرة التطبيع الجارية، يبنيها على تقاطع مصالحه أكثر من السابق، مع روسيا والتي هدفها إزالة الوجود الأمريكي من غرب كوردستان، كما ويدرك أن من أولويات الأسد، الحفاظ على السلطة، وإعادة مناطق إدلب والمحتلة من قبل تركيا، والقضاء على منظمات المعارضة التكفيرية، وهي في الواقع أصبحت من أولوياتها أيضا، لإرضاء روسيا وإيران قبل النظام، والمعارضة إما ستضطر بتقبل شروطها، رغم قساوتها، أو أنها ستصبح في خبر كان خلال شهور أو أقل.
رغم أن مهندس التطبيع مع نظام دمشق، هو أردوغان ذاته، إلا أنه قدم بوتين ليكون عرابها، حاول كثيرا منذ تحالف أمريكا مع الكورد لمحاربة داعش، ردم شرخ خلافاته مع النظام، عن طريق روسيا وإيران، لكن مصالحه حينها كانت مرجحة مع المعارضة السورية، وداعش، واستقبال المهاجرين، للضغط على أوروبا أملا قبولها في الإتحاد الأوروبي، والتوسع في المنطقة، وإظهار تركيا كقوة كبرى مقابل أمريكا وأوروبا في الشرق الأوسط، لكن وبعدما فشل، وبدأت روسيا تكسب على خلفية تحالفهما وإيران بعض النجاح، من على رفات مؤتمرات سوتشي وأستانه، وجد أردوغان ذاته مجبرا على عرض مخططه الجاري، وهو التعامل مع المجرم بشار الأسد، وبيع المعارضة وأدواته العسكرية والسياسية، مع شبه غياب لإيران في هذه المعادلة ولعدة عوامل، علما أنها موجودة كعرابة النظام.
ولا يستبعد أن تكون خطة لدفع النظام إلى مستنقع الصراع مع أمريكا، إلى جانب مخطط محاربة الكورد، لتعويم أدواته من المعارضة، فهل ستقبل بها روسيا؟ أم أن لروسيا مطالب، لم تظهر بعد، فأغلبية المعارضة العسكرية موجودة في قائمة الإرهاب، عند روسيا وأمريكا معا، والغريب هنا الدولتين يغضان الطرف عن الدعم التركي لها، وتسخيرهم كمرتزقة في حروبها…
يتبع
د. محمود عباس
والولايات المتحدة الأمريكية
29/6/2024م