تركيا هي الأكثر إلحاحا اليوم من النظام لإنجاح التطبيع، فلم يعد هناك وقت للبحث عن خطط بديلة، على خلفية تأزم العامل الداخلي، حيث التضخم المتصاعد، وتدهور الاقتصاد، وسقوط العملة، وتراجع دور حزب العدالة والتنمية. وبالمناسبة كتبت وقبل سنوات عدة مرات، أن تركيا، التي كانت تطمح التحول من دولة استهلاكية إلى إنتاجية، وبعد عقدين تبين أن بوادر انهيار اقتصادها أصبح واضحا، ولم تتخلص من الواقع الاستهلاكي، لأن الشركات الرأسمالية العالمية التي رفعتها إلى مستوى الدول العشرين في العالم، أوقفت عقودها، ورفضت تجديدها، لكن بما أن العقود متوسطة وطويلة الأجل، بين خمس إلى عشر سنوات، وهي الفترة التي تمر بها تركيا، ستعود بعدها إلى دولة معانيه، فكما هو معروف الدورات الاقتصادية عمرها عقد من الزمن تقريبا. وكل ما تبجح به أردوغان اقتصاديا، كان مبنيا على منهجية دفع تركيا إلى الإسلام الليبرالي لمواجهة المنظمات الإسلامية الراديكالية، وخسرتها يوم دعمت داعش والقاعدة والنصرة، والإخوان المسلمين، وبها ربحت دولة قطر وخسرت أوروبا والشركات الرأسمالية العالمية، وبالتالي لا يستبعد أن تتراجع تركيا إلى ما كانت عليه من دولة معانيه اقتصاديا، بعملة متدهورة.
وفي الواقع محاربة تركيا للكورد، والإدارة الذاتية، وحصار الإقليم الفيدرالي الكوردستاني، نابع من أنها مثل غيرها من دول المنطقة، بدأت تشعر برهبة احتمال إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وتدرك إنها وإيران معنيتين بالأمر، لهذا بدأ أردوغان التنويه قبل شهور، إلى إنه هناك قوى تريد تقسيم تركيا، واليوم كررها وزير خارجيته، مع إنذار النظام في دمشق، على أنه هناك قوى تريد تقسيم سوريا، دون التنويه إلى أنه أقتطع إدلب وعفرين من الجغرافية السورية في الواقع العملي، تديرها أدواته تحت غطاء احتلاله، وهو ما عرضه النظام كبند في الحوار قبل التطبيع، ووضع شرط خروج قواته كبداية، ولربما قبل ببعضها من أجل محاربة الكورد، ويقال بأن قواته بدأت تتراجع إلى المناطق الحدودية.
ولا يمكن لأردوغان وإدارته الاستمرار في الحوار بدون إيجاد حل لإشكالية المهاجرين السوريين، وإعادتهم تحت أية ظروف كانت، خاصة إلى المناطق الكوردية التي تحتلها، أو التي تأمل أن تحتلها بمساعدة روسيا والنظام ومنظمات المعارضة، بعدما لم تعد تستفيد منهم كورقة ضغط على أوروبا وأصبحت معارضته تستخدمهم ضده بقوة، وتدفع بالشارع التركي للتأفف منهم، ومثلها من بقاء أو إزالة دعمه لمنظمات المعارضة العسكرية، ولحل هذه الإشكاليات، بدأ بتقبل الشروط الروسية، والعمل على خلق رابط مشترك بين القوى المواجهة لأمريكا والكورد.
ومن القوى المواجهة هي روسيا، والتي ترى أن بقاء أمريكا مرتبط بتحالفها مع قوات قسد، ومتى ما انهارت قسد لن تبقى لأمريكا حجة الاحتفاظ بالمنطقة، ومن جهة أخرى ستضحي تركيا بالمعارضة تحت صيغة إيجاد توافق بينها وبين النظام، لكن بعدما يتم إزالة الإدارة الذاتية وقوات الحماية الشعبية، وتظل القوة الوحيدة أمام السلطة، من على الساحة السورية، وبالمثل تحاول إقناع النظام عن طريق روسيا على أن الاتفاق معها ستؤدي إلى ارضاخ المعارضة لشروط تلائمه والوجود الروسي، وهو ما دفع بها منذ سنوات إلى تغيير بوصلة المعارضة من محاربة النظام إلى محاربة القوى الكوردية تحت غطاء الإدارة الذاتية وقوات قسد.
كل هذا من أجل محاربة قوات قسد معا، والتي لا يمكن التمادي فيه مع وجود القرار السياسي الأمريكي، بديمومة التحالف مع قوات قسد، والبقاء في سوريا، والتي أصبحت من بين شروخ استراتيجيتها في الشرق الأوسط، وبالتالي فلن تتمكن روسيا من إحراز أي تقدم في هذا المجال حتى ولو بلع بشار الأسد الطعم، لأسباب خاصة، وهو وروسيا معه لا يملكون أية ضمانة على أنها ستتخلى عن المعارضة المأمولة أن تدفع بها لمحاربة الكورد والإدارة الذاتية، كما وتدرك الأطراف الثلاثة، أن خروج أمريكا من سوريا، وحيث الظروف التي هي فيها روسيا اليوم، خسارة لها وللناتو معا أمام روسيا، التي بدأت بوادر الضعف تظهر لديها، والتي أجبرتها على أن تقوم بالاتفاق مع كوريا الشمالية لتأمين النقص الحاصل في سلاحها، الوضع الذي تستغله أردوغان بخبث، ويدركه بوتين، والنظام أيضا، لكن مصالح كليهما تدفعان بهما إلى احتمالية قبول التطبيع، وربما لقاء على مستوى الرؤساء على الأرجح ستكون في موسكو.
لكن اللقاء ستكون مثلها مثل جميع مؤتمرات القمة التي تمت بين روسيا وإيران وتركيا في سوتشي أو موسكو وطهران وأنقرة، والنتائج بالنسبة لأمريكا لم تتجاوز الإعلام، وتصريحات هشة بعدها. وعلى الأرجح أنها ستكون مشابهة بالنسبة للإدارة الذاتية، لا يستبعد أن تحدث بعض الاعتداءات تحت حجج ما، كما تفعلها تركيا في كل مرة تقصف فيها المنطقة، وتخلق كارثة بعد أخرى، خاصة في ظروف تشتت الحراك الكوردي، والخلافات بين الإدارة الذاتية والإقليم الكوردستاني الفيدرالي، والتذبذب الأمريكي في تعاملها مع تركيا كقوة في الناتو، لكن من المستبعد أن تغامر السلطة بفتح جبهة مع قوات قسد، لكن قد تستخدم أساليب أخرى، وبعضها خطيرة، وبالتالي يتطلب من الحراك الكوردي، وقوى الإدارة الذاتية، دراسة التطورات الجارية، والخطة التركية الجديدة بعد فشلها بكل ما سبقها، كتحرك خطير، ولا تعني التقرب من النظام، أو المعارضة، ربما من الأهمية تكثيف الطلب من الدول الأوروبية وأمريكا حول ما يجري، وتأثيرها على مستقبل قوات قسد والوجود الأمريكي في المنطقة، وتوسع هيمنة روسيا، أي عمليا انتصارها في البعد الإستراتيجي.
وهذا ما لن تسمح به أمريكا، وهي في حرب مع روسيا حتى ولو أنها غير مباشرة، ففي حال نجحت تركيا في تأليب النظام والمعارضة على محاربة قوات قسد والإدارة الذاتية، على الأغلب ستقوم أمريكا بوضع تكتيك ما لمواجهتا، لأنها المعنية في الواقع قبل قوى الإدارة الذاتية، وعلى الأغلب النظام على دراية بهذه المجريات التي يدركها أبسط سياسي، ولن يبلع الطعم، حتى ولو قبلت التطبيع، وتم اللقاء بين الرؤساء، لن يشترك مع المعارضة في محاربة الإدارة الذاتية، وهي تدرك أنها تعني محاربة الوجود الأمريكي، والرد لن يكون سهلا، ومنابعها عديدة، قد يخسر فيها النظام ذاته، أي عمليا خطة أردوغان هذه ضد الكورد ستكون فاشلة كسابقاتها، ربما ستجلب كوارث جديدة للشعب، ليس فقط الكوردي بل والعربي أيضا.
د. محمود عباس
والولايات المتحدة الأمريكية
29/6/2024م