بعد خروجي من المستشفى أثر عملية جراحية في القلب. زارني عدد من الأحبة والأصدقاء، ومنهم الأخ والصديق هيمان كرسافي برفقة العائلة الكريمة.
قال حكيم قيراني يوما: (لو حك أحدهم جنبه في ديواني، ظننته لوهلة سيخرج لي هدية ما من عبّه).
وكلما زارني أحدهم، نظرت الى يديه لأرى ان كان يحمل كتابا هدية لي. وكان العزيز هيمان يحمل كتاب (همسايكو) هدية قيمة أعتز بها.
و(همسايكو) مصطلح منحوت من كلمتي: همسات، وهايكو: الهمسات نصوص قصيرة، والهايكو: نوع من الشعر الياباني القصير، يتألف من ثلاثة أسطر.
بعد أن تماثلت للشفاء، وانقضت فترة النقاهة، كان جدولي مزدحما بالقراءة والكتابة والنشر. ولهذا تأجلت قراءتي لهمسايكو، وربما السبب الثاني يكمن في أن الكتابة عن الشعر تختلف عن الكتابة أو قراءة وتلخيص كتاب آخر.
كان عليّ أن أقرأ الكتاب أولا، واتأمل نصوص وقصائد همسايكو ثانيا، ومن ثم أنتظر أن يتكون موضوع، وربما مواضيع تستحق الكتابة عنها في ذهني، وتكون مشتقة من الكتاب نفسه. فالكتابة عن ديوان شعري أو كتاب أدبي تختلف عن قراءة في كتاب مثل (البحث عن الدين الأيزيدي تاريخيا) مثلا.
نشرت قصائد ونصوص الكتاب في العديد من الجرائد المحلية والدولية مثل: (جريدة صوت لالش، جريدة نبض الموصل، جريدة العراق اليوم، جريدة الزمان، جريدة النهار) وغيرها. ويمكن العثور على الكتاب من أجل شراءه في موقع الـ (ebay)، فهو بالتالي ليس باهض الثمن.
أوّل جملة في الكتاب هي: لم أنتبه… أي أن الشاعر ينبهنا بما سيحدث، وربما استشعرت بذلك من خلال الاهداء في الصفحة الأولى حين قال:
“الى الشمس التي اشرقت في وقت غسق أحلامي..” أي انه في وقت الأفول.. وسنرى ما يحدث له بعد ذلك. هي صدمة! ومفاجأة! فهو كما قال، لم يكن منتبها لذلك.
من الجدير بالذكر أنني هنا في هذه القراءة المتواضعة، لا أخاطب شخص الشاعر (هيمان كرسافي) وانما القصائد والنصوص التي كتبها. أي أن الأمر قد يكون خاصا بهيمان أو بغيره، أو بواقعة معينة أو ظاهرة اجتماعية، يتناولها كمراقب، أو كفرد من المجتمع، فهو يتحدث عن الحياة والحبّ والألوان، وعن الخيبات وعن الذكريات.. الخ، فأنا لا أحاكم الكاتب من خلال النص! ولا ينبغي أن يحاكم أي كاتب من خلال نصوصه، وخاصة إذا ما كانت الكتابة من الجنس الأدبي.
ومثلما هناك سوداوية، ومعاناة مبطنة في النصوص نجد على الفور ابتسامة أمل وجانب إيجابي مشرق. وهو يدرك ذلك، ويريد أن ينبهنا اليه:
يبتسمان في وجهي
هناء
وضوء الشمس.
وهنا لا اتفق مع الأديب (عبد الكريم الكيلاني) عند تقديمه للديوان، في تشبيه عمل الشاعر بفعل دون كيشوت. فهو أي الشاعر ليس ساخرا ولا يتحدى الواقعية، وانما يعبر عن خلجات نفسه، وعمّا جرى ويجري له، وهو في صدمة من ذلك أحيانا، ومتفائلا أحيانا اخرى.
فهو أذن عقلاني وواقعي، وراض بقسمته حين يقول:
على مدار اليوم
عيناك فقط
صباح مشمس.
وحين يلتفت الى نفسه والى واقعة نجده هكذا.. متفائلا وقانعا، وما أن تغلبه الذكرى ويجتاحه الحنين حتى يعود الى حالته، وهو مذهول فيما يجري له ويقول بأسى:
وتتلف
في سماء الحقول
بهجة الذكريات.
وهكذا يشتد الصراع في داخله بين الانتظار والأمل، وبين الذكرى والضياع. وترافقنا هذه الثنائية كل مرة في هايكو أو همسة، ويمكن العثور عليها في: (انتظار، الثمالة، القبلة، الثورة، اوشفيز، العزف… الخ)
وفي احايين أخرى يتساءل عن الفرح، بل يؤكد عليها حين يخبرنا أن:
وراء شيخكا
طبل وزرنا…
وهو في هذه الحالة من الثنائية التي قد يثير حفيظة القارئ، وكأنه يرجوه بطريقته كشاعر أن يمهله بعض الوقت، ربمّا لكتابة المزيد النصوص، فهو يقدم اعتذاره اللامرئي في رائعته عن الأسبرين في الصفحة الخامسة والعشرون (25).
ويعترف لنا بما يجري في وطنه من عنف، ولا يستطيع أن يقدم شيئا بالمقابل غير أن سنين عمره الثلاثون قد مضت:
أعترف أن ضميري
يتبرأ مني
فيطعنني ثلاثين طعنة
وأنا مستلقي
أشاهد العنف
في مسقط رأسي.
وربمّا بعد أن التنقل بين طرفي تلك الثنائية، ينتقل الى جزيرة الحبّ في:
(القلادة، اللغز، مايا، القبلة، أنت، …الخ)
هناك رجوع اضطراري، أو ربما كان سوءا في تنظيم وتوزيع النصوص بين دفتي الكتاب، فنرى مزيدا من الحيرة وتأكيدا على الواقع الذي يريد الأفلات منه، فيقول بأسى:
ضباب في الشارع
مزيد من الطين
اعبر أمامك.
فهو يؤكد ويقول: أنظر! رغم الواقع المرّ، وحالتي المزرية التي أنا فيها، ولكنني عابر لا محالة. حتى نأتي الى الصفحة الثالثة والأربعون (43) فنجد (همسات) ليؤكد لنا بأنه يحب الحياة وواقعي ويحب الحبّ وهو واضح، واضح في الغياب، واضح في الحضور، واضح في حيرته أمام الواقع الأبيض نهارا والأسود ليلا. ولهذا نراه متعلقا بالأبيض والأزرق دون الألوان الأخرى، بالتأكيد الأبيض يوحي بالنظافة، فنرى استعماله بكثرة في المستشفيات، وملابس الأطباء والممرضات، وهو لون الملائكة والأيزيدياتي في مخيلتنا؛ ولهذا يرمز للنقاء، والى التجدد والاشراق والأمل المتجدد دوما.
وتنعكس الدلالات النفسية للون الأبيض على شخصية من يُفضله على سائر الألوان الأخرى، فغالباً ما يبدو محبو اللون الأبيض أشخاصاً مثاليين بكلّ ما تشمله الكلمة من معاني السلام، والهدوء، والتصالح مع الذات والآخرين، هذا بالإضافة إلى الترتيب والتنظيم، والبعد عن العشوائية، فنادراً ما يتواجدون في أماكن تعمّها الفوضى، عدا عن محاولاتهم الدائمة لتحقيق مستوى عالٍ من الكمال والاحترافية في كلّ ما يفعلونه، ولا يُمكن التغافل عن براءتهم ونقاء نفوسهم الخالية من الأنانية أو التصنع. ومن يعرف هيمان ويتعرف عليه سيجد فيه هذه الصفات.
إذا كان الأبيض يتسم بالإيجابية والطهارة، نجد أن الشاعر قد زاحم الأبيض بالأزرق هنا لابد من تفكيك دعوته للاحتفال بالأزرق الى جانب الأبيض.
اللون الأزرق يعزز الأمان ويرتبط بالهدوء والعقلانية والجدية فهو هنا وكـأنه صنو للأبيض وهو مصدر جيد للأبداع ويرمز للحماية والحب والحياة بصورة عامة.
ويمكن ملاحظة كل هذا وأكثر في النصوص والقصائد: (الأزرق ص50، طلاسم تحت الأزرق ص57، أبيض تحت الأزرق ص77، الأبيض ص104)، وغيرها من النصوص ذوات العناوين غير المباشرة، مثل: (الألب، اعتراف، سقوط، رسائل من 27، أحلام… وغيرها).
الديوان من القطع الصغير، ويستحق محاولة اكتشاف النصوص الغافية بين دفتيه؛ للبدء برحلة مع الشاعر في مركبه الأبيض والأزرق.
استمتعت بقراءة هذا الديوان الصغير بأوراقه، والكبير بمعانيه، وجدت فيه قصائد مموسقة وكأنني كنت في نزهة ربيعية تخللتها مختلف تقلبات الطقس من شمس دافئة، ومطر، وبرودة، وهروب للغيوم ثانية وعودة للشمس. هذه دعوة لقراءة همسات، وهايكوات هيمان كرسافي المتشحة بالأبيض والأزرق.