تنحو بعض المجتمعات نحو تأليه بعض الشخصيات العامة، كالرياضيين والمغنيين ونجوم السينما… الخ. ليميلوا بعدها نحو الفوضوية، وغالبا ما تكون فوضوية صريحة ومعلنة.
فهل انقياد الأفراد نحو مواقف مثل هذه سببها الرأسمالية؟
برأي ليس بالضرورة، ففي أوائل الثمانينات، حينا كانت دول الاتحاد السوفيتي ما تزال قائمة، وكانت بالضد من الرأسمالية تماما. صدف وأن ذهب النجم السينمائي الهندي (ميثون جاكرابوتي) لغرض فني وليدعم فلمه المشهور (ديسكو دانسر) أي راقص الديسكو، الذي كان يعرض هناك. فحدثت زحمة في المطار لا ع البال ولا ع الخاطر، المئات يهرعون للمسه، أو اتخاذ الصور معه، أو الحصول توقيعه. وحدث الشيء نفسه للنجم (راج كابور) في الخمسينات، وليس فقط في الاتحاد السوفيتي بل في جمهورية الصين أيضا عند عرض فلمه المشهور (المتشرد).
نفس الشي يحدث عندما يزور (شاروخان) أو أميتاب باتشان الى مصر أو دبي، بل يتجمعون حول مسكنهما في المناسبات من أجل أن يكحلوا أعينهم برؤية نجمهم المفضل. وهذا يحدث للمطربين أيضا فعندما كان يزور مايكل جاكسون أية مدينة في أي بلاد في جولة غنائية، أو ترويج ألبوم غنائي جديد. كان يحدث هرج ومرج لا أوّل له ولا تالي، وحينها كانت الشرطة تضطر الى التدخل، وفي بعض الدول ربمّا استعانوا بالجيش.
يحدث الشيء نفسه اليوم مع بعض مشاهير السوشيال ميديا فعندما زار (الدحيح) واسمه حسب ويكيبيديا احمد الغندور، باحث وصانع محتوى يوتيوب مصري، اشتهر باسم الدحيح نسبةً لاسم قناته، وهو أحد البارزين في مجال تبسيط العلوم أو العلم الشعبي، حاصل على درجة البكالوريوس في علم الأحياء من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وعلى درجة الماجستير في علم التربية من جامعة هونغ كونغ.
صاحب برنامج دحيح في اليوتيوب. عندما تمت دعوته للحضور الى معرض بغداد الدولي للكتب تجمع حوله المئات من الناس. وكان هو نفسه مندهشا، ويحصل الشيء نفسه مع اللاعب رونالدو أو ميسي. ومع قوقية ومن لف لفهم.
ما الذي يحدث؟
الأنسان في صغره كان في كنف أبيه يتطلع اليه كنموذج وكقدوة ويقلده لينال رضاه، فبالتالي هذا يثبت بأننا كائنات اجتماعية نتأثر بما يفعله الآخرون كما لا يخفى، وخاصة الأشخاص الذين نعتبرهم ناجحين أو مؤثرين. هذا التأثير يمكن أن يكون إيجابيًا أو سلبيًا، ولكنه غالبًا ما يدفعنا لتقليد المشاهير والقادة والقدوات في سلوكياتهم ومظاهرهم وان لم نستطع الى ذلك سبيلا. نتطلع الى الجري ورائهم ورؤيتهم والحصول على السلفيات معهم. وإذا تعذرنا في ذلك نتعمد مشاهدة أعمالهم، على الشاشات الصغيرة، أو نتتبع أخبارهم، وتفاصيل حياتهم.
يقول أبن خلدون في مقدمته الشهيرة:
“… وأنه لا يوجد فارق جوهري بين المعجزة التي يأتي بها النبي والأعجوبة التي يقوم بها الساحر”. والساحر هنا كل من نال حظا من الشهرة في هذا الزمان كما أعتقد.
يتجه الناس إلى تأليه المشاهير كوسيلة للهروب من مشاكلهم اليومية. متابعة حياة المشاهير يمكن أن تكون وسيلة للترفيه والتسلية، مما يوفر نوعًا من الراحة النفسية، والكثير من الناس يبحثون عن قدوة أو نموذج يحتذى به. المشاهير غالبًا ما يُنظر إليهم كأشخاص ناجحين ومؤثرين، مما يجعلهم قدوة للكثيرين.
طبعا! وسائل الإعلام والشركات الكبرى تستغل شهرة المشاهير للترويج للمنتجات والخدمات. هذا يزيد من ظهورهم وتأثيرهم في حياتنا اليومية، مما يعزز من مكانتهم في المجتمع.
متابعة المشاهير والتفاعل معهم يمكن أن يمنح الناس شعورًا بالانتماء إلى مجموعة أو مجتمع معين. هذا الشعور بالانتماء يمكن أن يكون قويًا جدًا ويعزز من تأليه المشاهير.
قصّة بالمناسبة:
في نهاية السبعينات من القرن الماضي عندما كنت أعمل وأدرس في مدينة الموصل، كان من عادتي الذهاب الى دور السينما لمشاهدة مغامرات الأبطال الذين أحبهم. وحدث في يوم، عرض فلم هندي اسمه (أمل على الطريق) أسرتني قصّة الفلم المبنية على المغامرات والأغاني الشجية كعادة معظم الأفلام الهندية في تلك الفترة. ولكنني وجدت نفسي مندفعا لمشاهدة هذا الفلم بالذات مرات ومرات متتالية.
لم يكن لدينا الخيارات المتوفرة الآن من سماع للأغاني أو مشاهدة الأفلام أو الاطلاع على ما نريده وقتما نريد. ربمّا كانت السينما هي مصدر الترفيه الوحيد في المدينة وهو المجال الذي يخرجنا من الواقع لنسرح بخيالنا في العوالم التي نحلم بها.
الغريب انني لم اتعلق ببطل الفلم المغامر الشاب محارب الظلم والظالمين، أو ببطلة الفلم الجميلة، بقدر تعلقي بالقصّة نفسها، وسير الأحداث التي كانت تشدني. ولشدة تعلقي بالفلم كمغامرة كنت أتطلع القيام بمثلها في يوم ما، أطلقت على أول كتاب دونته في شبابي اسم الفلم (أمل على الطريق).
تبين لي لاحقا أن اسم الفلم الأصلي باللغة الهندية يدعى (روطى) أي الخبز. ولكن هل قلت رغبتي في مشاهدة هذا الفلم لمعرفة اسمه الحقيقي؟ الجواب لا. فكما ذكرت استهوتني قصة الفلم المبنية على مغامرة عاطفية واجتماعية معقدة، مبنية على التنقل والتجوال من مكان لآخر، وتتخللها أغاني شجية؛ ولهذا ما أزال أحب مشاهدة ذلك الفلم.
أبناء الآلهة في مجتمعنا:
ليس كل المجتمعات محظوظة مثل بعضها، وفيها شخصيات عامة تهرع الناس وقنوات الأخبار وصالونات المجتمع للتقرب منهم، ولهذا أرى مجتمعنا الأيزيدي الشنكالي وكأنه يسير عكس عقارب الساعة، تماما كرقصة السما المشهورة عندنا، أي أننا نفتقر لتواجد مثل أولئك الشخصيات النجوم الذين يمكن أن نطلق عليهم لقب الآلهة الجدد. أو حتى أبناء لأولئك الآلهة.
المضحك أن بعض الفنانين عندنا، ومنهم فنان شعبي أعرفه، يذهب الى حفلات الزواج والحفلات الخاصة بمقدار معلوم من الأجر. هذا الفنان النص ردن يرفع من عقيرته عندما يسير ويلتفت يمينا ويسارا مرتديا أغلى الملابس، مختبئا وراء نظارة تشبه نظارة نادية لطفي خوف محاولة أن تغتاله الأيدي الخفية المناهضة لصعود ذلك النجم المحبوب، مثلما جرى لدونالد ترامب هذه الأيام.
هذا الفنان يحسب نفسه مشهورا، وهو لا يعرف بأن جاره الذي يسكن لصقه لم يسمع به بعد.
ومثلما نجد التنافس قويا بين أولئك المشاهر للاستمرار في الصمود في المكانة التي وصلوا اليها، كذلك نجد تنافسا مضحكا بين أولئك الذين مكانتهم في الحضيض، ويتنافسون أيضا للبقاء في الأسفل وتزويدنا بكل ما يسيء الى تراثنا من نشاطات بائسة لا تمت للفن أو الثقافة بصلة.
نحن بحاجة الى البدء من جديد، ولا عيب في ذلك. بل من المخجل البقاء في الأسفل والعزف على طنبور مقطوع الأوتار.
على الشباب الانخراط في معاهد واكاديميات الفن والموسيقى بدلا عن الشرطة والجيش، والبحث عن ذواتهم في تبني مبادئ وأسس تدعم تقدم المجتمع ومنحه فرصة اللحاق بالمجتمعات المتقدمة على طريق اليسار والتمدن. فالذي يدافع عن مهنته ويتثقف من أجلها ويجيد التحاور بشأنها ويكون شغوفا بها حتى لو كان بائعا للفلافل سيشتهر، ويشار له بالبنان.
ما أن نرى أحدهم في مجتمعنا يكتب مقالا أو ينشر موضوعا على حائطه الفيسبوكي يصيب القارئ بالإسهال؛ أو يكتب نصا يعتبرها قصيدة وهي بعيدة عن الشعر بعد عنترة العبسي عن شرب الببسي كولا البارد في هذا الحر اللافح. أو يغني في حفلة خاصة. نرى هؤلاء ينحون منحى التوعية، ويمطروننا بنصائحهم التافهة. أكثر مما يتوجهون لتحسين صورتهم عن طريق التدريب والتعلم والقراءة.
البحث عن الجواهر المكنونة في التراث، أو محاولة قطف النجوم من السماء يكون عن طريق التعلم الأكاديمي أولا، وليس ببيان رغبة دفينة فقط. أو التفنن في اللبس. الرغبة يجب أن تكون مرافقة للتعلم والأخلاص للرسالة الفنية والثقافية والاجتماعية وأي كان نوع تلك الرسالة التي تؤديها.
الفرد الشنكالي لا يرتقي للعالمية الا في أحوال نادرة، فهو مشغول بمنافسة زميله وجاره أكثر من الالتفات لنفسه. بينما الواقع يفرض عليه أن يتسلح بالثقافة الحديثة ويكون حداثوي ومرن التفضيل.
أخيرا علينا ألا نحمل أفراد مجتمعنا ما لا طاقة لهم به من التنافس مع العباقرة وأولئك الخالية بالهم، وهم يهتمون بالدرجة الأساس في البحث عن قوت يومهم.
نحن لم نخرج من صدمة الفرمان بعد. ولكن مع ذلك لا بأس من شرح وبيان ما يجب عمله ولو في قادم الأيام للارتقاء بالمجتمع وإصلاح حاله.