منطق ومنطق – الدكتور صادق إطيمش

 

تدور نقاشات كثيرة هذه الأيام حول تعديل قانون الأحوال الشخصية النافذ الآن في العراق. وموضوع النقاش الدائر يتمحور حول النصوص الدينية التي جاء بها طالبو التعديل والتي يرفضها الآخرون الداعون الى الدولة المدنية وقوانينها.

من الطبيعي ان يكون لكل من الطرفين مبرراته الداعية الى اتخاذ موقفه ، محاولاً بذلك تفنيد مبررات الطرف الآخر، وهذا هو التفسير المنطقي والموضوعي والعلمي ايضاً للحوارات التي تدور حول مواضيع غير متفق عليها.

إلا ان ما لاحظته من خلال متابعاتي لبعض هذه النقاشات ، سواءً الشخصية منها، أي التي تجري من خلال اللقاء المباشر بين المتحاورين، او غير المباشرة عبر الكتابة او التعليقات على ما يُطرح من الآراء حول هذا التعديل المزمع مناقشته امام مجلس النواب العراقي، بروز نوعان مختلفان من الخطاب في لغة الحوار: الخطاب الديني من قبل بعض المتدينيين  الإسلاميين او المحسوبين على الدين ، الذين يدعون الى إقرار التعديلات ، والخطاب المدني الرافض لها.

وما يثير الإنتباه في الخطاب الديني هو تركيزه على بعض النقاط التي تداعب المشاعر النفسية والممارسات العبادية والتمسك بالتراث ونصوصه كاملة او بقدر المستطاع، كما يعبر البعض عن ذلك، فلماذا كل هذه الممارسات التي تريد تحويل النقاش في موضوع يهم جميع فئات المجتمع العراقي بمختلف اديانه وقومياته وتراثه الى نقاش يهتدي بسقوف نصوص يعتبرها بعض هؤلاء الأسلاميين اساساً للمجتمع الذي يصبون اليه ؟

ففي الوقت الذي يطرح فيه رافضو التعديل مبرراتهم القانونية للرفض والتي تستند على الدستور العراقي النافذ الآن في العراق، ويناقشون التبعات الاجتماعية التي يسببها هذا التعديل، خاصة فيما يتعلق بزواج القاصرات، ويلجأ النساء منهم والرجال على حد سواء الى تنظيم اللقاءات والمناشدات التي تدعم موقفهم هذا الذي يعتبرونه يصب بالإتجاه الذي يدفع وطننا نحو التعايش والتفاعل مع التطورات التي سادت مجتمعنا في القرن الواحد والعشرين الذي تعيش فيه البشرية بتسارع مع العلوم والإكتشافات والإختراعات بشكل لم  يسبق له مثيل ، مع الثقة الكاملة بتزايد وتائر هذا التطور التي تتطلب عكس ما يصلح منها على وطننا واهلنا ومن اجل تحقيق سلام اجتماعي وحياة مشتركة لا تمييز فيها في دولة مدنية تاوي الجميع بكل ما يضمه هذا الجميع من تنوع واختلاف، يطرح الإسلاميون مسألة الأخلاق التي يصورونها حسب مقاساتهم بانها الفيصل في بناء المجتمع، لا ضير من ذلك، بل وذلك من فضائل الأمور، اذا كانت مفردة الأخلاق لديهم لا تعني الجنس فقط والممارسات الشائعة الآن فيه، بل تعني كل ما يمس القيم الإنسانية التي يشملها هذا المصطلح ، والتي يفتقدها مجتمع دولة الأحزاب الإسلامية في عراق اليوم الذي تتحكم بمصيره هذه الأحزاب. لقد حولوا النقاش حول مسألة قضائية فقهية الى ميزان لتقييم الاخلاق والشرف حسب فهمهم لهذه المصطلحات.

حينما يحاول الإسلاميون ان يداعبوا مشاعر البسطاء من الناس ويلجأون الى تحويل النقاش حول هذا الموضوع الى مسألة شرف واخلاق وتديُن والتزام بتعاليم إلهية والحفاظ على مجتمع مؤمن ،فإنهم جاعلين ما يدعون له من تعديل على قانون الأحوال الشخصية الجاري العمل فيه الآن في وطننا الضمان الأكيد للحفاظ على الاخلاق والشرف والفضيلة التي لا يحققها هذا القانون السائد الآن ، ولا يتورع كثير من هؤلاء من استعمال الكلمات البذيئة والمصطلحات اللااخلاقية للتعبير عن آراءهم ولتسويق مبرراتهم الداعية للتعديل. لا اجد سبباً للجوء الإسلاميين الى هذا النوع من الخطاب البذيئ حينما يناقشون هذه القضية القانونية ، سوى فقرهم الفكري بماهية الدولة التي تتواجد على ارضها جماعات مختلفة في كثير من توجهاتها الحياتية، ولا رابط يربط بين هذه التجمعات سوى الإنتماء الى ارض الوطن والتمسك بالمواطنة مع الآخرين دون أي تمييز. انهم ينظرون الى الدولة من خلال ما يسمى بالوثيقة العُمَرية التي لا تعترف بهذه الحقوق ، ومثل هذه الدولة لا مكان لها اليوم في مجتمعات القرن الواحد والعشرين.

لنعود الى منطق طرح موضوع الشرف والأخلاق  والحفاظ على التعاليم الدينية التي يطرحها الإسلاميون الداعون الى تغيير قانون الأحوال الشخصية النافذ الذي لا يضمن كل ذلك، حسب ما يزعمون.

لو أجرينا مسحاً بسيطاً لواقع مجتمعنا العراقي اليوم، فسنجد ان هذا المجتمع يعمل بهذا القانون منذ خمس وستين عاماً. ومن خلال متابعة النقاشات الدائرة بين الداعين الى التعديل والرافضين له نجد ان كل المشاركين تقريباً هم من الجيل الذي نشأ وتربى ومارس الحياة العائلية والإجتماعية خلال الخمس وستين سنة الأخيرة النافذ فيها هذا القانون. فهل ينظر الداعون الى تغيير هذا القانون بانهم نتاج مجتمع تربى على قيم بعيدة عن الشرف والأخلاق لان حياتهم التي ساروا عليها لحد الآن رهينة بتنفيذ هذا القانون خلال الخمس وستين سنة الماضية ؟ هل من المعقول والمنطقي ان يتصور الإسلامي المتدين انه لم يمارس تعاليم دينه في الحياة الاجتماعية التي عاشها حتى الآن وذلك بسبب تطبيق قانون الأحوال الشخصية النافذ الآن والذي يدعو الى تغييره للحفاظ على الدين وتعاليمه في تنظيم الحياة الاجتماعية؟ إن كان يؤمن بذلك حقاً فعليه مراجعة مفرداته البذيئة التي يوظفها في هذا النقاش ليستعملها في نقاشات أخرى مع اقرانه ومشاركيه في آراءه هذه. ان استعمال السباب والشتائم والطعن بالأعراض ، هذا المنطق الذي يواجه به الإسلاميون معارضي تعديلاتهم على قانون الأحوال الشخصية يكاد يكون المنطق الوحيد الذي يجيدونه في نقاشاتهم ، تماماً كما يجيد بعض معممي منابرهم الكذب والدجل والشعوذة التي تسيئ الى ما يؤمنون به من قيم وقناعات عقائدية اكثر مما يشير الى القناعة بها.

من وجهة نظري أرى وجود فائدة لا يمكن تجاهلها في هذه النقاشات والتي قدمها كثير من الإسلاميين المشتركين فيها ،  الا وهي اعتبار الداعين الى رفض التعديل شيوعيين مُسَيرين من قبل الحزب الشيوعي العراقي لهذا الغرض .قد تعود دعايتهم المجانية هذه للشيوعيين  الى فراغ ادمغتهم من ابسط المعلومات عن طبيعة المجتمعات وتحركاتها وأساليب حياتها في فترات مختلفة من تاريخها، وهم بذلك يجهلون طبيعة مجتمعنا العراقي وتنوعه وبالتالي طبيعة تنظيم حياته استناداً الى هذا التنوع . نعم يشارك الشيوعيون بكل فخر وشجاعة ونكران ذات في جميع النشاطات التي تدعم رافضي التعديل ، إذ ان الحزب الشيوعي العراقي يقيم قانون الأحوال الشخصية النافذ منذ عام 1959 بانه الأكثر تجاوباً مع مكونات وبالتالي حياة الشعب العراقي، إضافة الى انه من القوانين التي تضاهي قوانين الحداثة والتطور في دولة تنهج التنظيم المدني للمجتمع، إلا ان الشيوعيين العراقيين ليسوا وحدهم في خوض هذا النضال، إذ ان هناك تجمعات ومنظمات وشخصيات وطنية أخرى يشاركها الشيوعيون في نضالها من اجل الحفاظ على هذا القانون وعدم المس به او اجراء أي تعديل عليه. فمتى يفقه هؤلاء حقيقة تنوع الشعب العراقي وينزعون حجاب الجهل به الذي حجب على الأبصار والبصيرة.

الدكتور صادق إطيمش