دراسة في القضايا التطبيقية – لـ – غوستاف لوبون – الجزء الثاني – خديجة مسعود كتاني

عن كتابه : سيكولوجية الجماهير

 

أهم جوانب تطبيقات لوبون وأفكاره في العصر الحديث

١-سيكولوجية الجماهير

  • الانتخابات والسياسة : يمكن أن نلتمس تأثير أفكار لوبون في الحملات الانتخابية، في استغلال العواطف والانفعالات والتلاعب بالرأي العام، وإستخدام استراتيجيات لتوجيه الناخبين ٠
  • الحركات الاجتماعية : تظهر أفكار لوبون في تحليل الحركات الاحتجاجية والتطرف والتأكيد على دور الزعيم والقائد في توجيه الجماهير٠
  • وسائل الاعلام : تلعب وسائل الاعلام دوراً حاسماً في تشكيل الرأي العام وتوجيه سلوك الجماهير وهو ما يدعم رؤية لوبون

٢– الوعي الجماعي

  • الثقافة الشعبية : تظهر مفاهيم لوبون في تحليل تأثير الثقافة الشعبية، كالافلام والموسيقى الأغاني والرقصات، التراث والفلكلور، فضلاً عن القيم والمعتقدات الجماعية المتوارثة
  • الهوية الوطنية : يمكن تطبيق أفكار لوبون لفهم كيفية تشكيل الهوية الوطنية خلال الرموز والقيم المشتركة

٣- دور الزعيم

  • السياسة والقادة الدينية : يؤكد لوبون على دور الزعيم في توجيه الجماهير، وهو ما يمكن رؤيته في العديد من السياقات السياسية والدينية
  • التأثير على الرأي العام : يستخدم الزعماء إستراتيجيات مختلفة للتأثير على الرأي العام بما في ذلك إستخدام العواطف والتبسيط، التكرار والتأكيد، العدوى ٠

نقاط نقدية وتحديات لافكار لوبون

١-التعميم المكثف : تتعرض أفكار لوبون لانتقادات بسبب تعميمها الزائد لسلوك الجماهير

٢- الاغفال أوعدم ألاكتراث بالفردية : التركيز بشكل كبير على الجماعة وإتخاذ القرارات المستقلة

٣- الاستخدام السياسي : تمَّ استغلال أفكار لوبون في تبرير السلوكيات الاستبدادية وتقويض الديموقراطية

أمثلة تطبيقية

  • انتشار الاخبار الكاذبة : تُفَسَّرْ إنتشار الاخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي  خلال نظرية لوبون حول قوة الاقتراح والتأثير على الجماهير
  • الحركات المتطرفة : يمكن تحليل صعود الحركات المتطرفة وتجنيد الاتباع خلال أفكار لوبون حول سيكولوجية الجماهير
  • التلاعب بالرأي العام : كأنظمة الذكاء ألاصطناعي والبيانات الضخمة٠ التي تشكل اليوم ثورة جديدة لحقبة مابعد النفط ، مما أدى الى تغيير دور الانترنيت كشبكة بمفهومها التقليدي المتعارف عليها، فلم يعد للمعلومات أي إحتكار كما كان سابقاً في الاعلام الجماهيري٠

 

رغم صلة أفكار لوبون بالقضايا المعاصرة، يجب التعامل معها بحذر وتقييمها في سياقها التأريخي والثقافي ولا يغيب عن البال أن سلوك الجماهير معقد ومتعدد الأوجه ولايمكن تفسيره بشكل كامل خلال نظرة واحدة٠

 

الخصائص النفسية للجماهير وآراء متناقضة

لكي يمكن دراسة الخصائص النفسية (للجمهور) يجب أن يذوب الفرد وشخصيته داخل المجموعة  كونه من أتباع فكرة أو حزب أو دين معين٠وما ينخرط  داخل الجمهور حتى لانفرق بين الطبيب وصانع الأحذية وبين المرأة والرجل ، الصغير والكبير، وتمحى الهوية الفردية حتى يكتسب سيكولوجية خاصة بالجمهور ويسمى (بالامتثال الجمعي) وهذا الجمهور يحرك (روح الجماعة) وليس ( روح الفرد)٠ وعندما يتحول الفرد الى عنصر ضمن جماعة تذوب كل العناصر المكونة للفرد في إنعزاليته فيكتسب صفات جديدة مثل سرعة الانفعال والاندفاع وخفته، فالشخص داخل الجماعة مقود من قبل اللاوعي، ولا يتصرف الّا على هوى الاثارة والتحريض بحيث لايستخدم مخه أو عقله٠ وهذه الجماهير تكون غالبيتها ساذجة، تصدق كل شيء يقال لها دون تفكير وترَّوي فهي شاردة على حدود اللاشعور تتلقى بكل طيبة كل الاقتراحات والاوامر٠ ولا تقف عند هذا الحد، بل تتعدى الى تضخيم كل شيء مهما كان بسيطاً، فعواطفها تتميز بطابع مزدوج، عواطف مضخمة و عواطف مبسطة وهذا يجعلها مستبدة إتجاه الاخر المختلف عنها ٠والفكرة هي أنَّ للجماهير عواطف خاصة وأخلاقيات تنزاح نحو التطرف والتشدد٠أي الفكرة تتحرك بالعاطفة أكثر من العقل والمنطق٠ ويقول لوبون لهذه الجماهير خصائص نفسية مشتركة منها (العدوى) وتسمى (العدوى العقلية)٠

يتحرك الجمهور وينشئ عقائده نتيجة مجموعة من العوامل، يمكن تقسيمها الى قسمين رئيسيين :

١-عوامل بعيدة مثل (العرق) و (التقاليد الموروثة) فالجمهور كائن عضوي والكائنات العضوية لايمكن تغييرها الا بواسطة التراكمات الوراثية البطيئة٠والعرق الذي يتشكل عبر التأريخ هو من أقوى الخصائص التي تتحكم باللاوعي الجماعي لدى الجماهير٠ لكن لوبون طوَّرَ هذا المفهوم باسم (العرق التأريخي) لذا هو ليس عنصري بالمعنى الكلاسيكي للعنصريين، بدليل قوله الجماهير اللاتينية : فرنسا، إيطاليا ، إسپانيا هي أكثر عاطفية من الجماهير الانگلوسكسونية وقصد بها إنكلترا٠ وتحدث هنا عن إختلاف روح الجماهير التي تتشكل بإختلاف العروق وتحدث عن (العرق الشرقي) أنه أكثر عاطفي من العرق اللاتيني٠ هنا يناقض لوبون نظريته عندما يتحدث عن الوحدة العرقية بدون أن يقصد الانتماء العرقي، فهو يقصد بذلك (العامل المشترك) وهذا يضعف فكرته أنَّ المجتمعات تتشكل من مجموعة أفراد وهي تنزاح وتميل نحو الاستقلالية لذا أفكار لوبون تنتقد جزء من إدعاءه وتثبت عدم صلاحيتها بشكل مطلق، ويناقض قوله الذي يهيمن على روح الجماهير ليس الحاجة الى الحرية وإنما العبودية لانه ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غريزياً لمن تعلم بأنه زعيمها٠ أي المقصود هو الجماهير كالقطيع لاتستطيع الاستغناء عن السيد٠ وقصد لوبون بذلك أن (روح الجمهور) لاتميل الى الحرية غريزياً وتهيمن عليه الحاجة الى العبودية ٠ وهذه النظرية استفزت الكثير من الباحثين ذوي الاختصاص والمفكرين٠ ولكن البعض أعتبره محقاً في هذه الفكرة أو النظرية رغم كونها مستفزة، لان الجمهور عندما يتبنى قضية أو فكرة تستعبده أي (يصبح آداة منفذة لها) منها الحرية المساواة، التغيير، الثورة، كل هذه المصطلحات التي نؤمن بها ونسعى لتحقيقها ضمن ظروف معينة في وقت من الأوقات تستعبدنا وتمتلكنا وتسلب قوتنا العقلية والجسدية وأيامنا٠

رأي آخر: اليوم تختلف الحسابات لدى الانسان عن ذي قبل، فالانسان عندما يشارك هكذا تجمع جماهيري أيًا كان حراك إقتصادي، ثقافي، ديني، سياسي ، له حسابات يتحسب لها مسبقاً تبعاً للعوامل المؤذية، أو المفيدة ويفكر في نفسه قبل غيره مهما تكن الدوافع والأسباب ٠وذهاب الانسان الى العبودية بنفسه ربما فقدت اليوم قوتها تبعاً لارتفاع المستوى الفكري في زمن العولمة والثقافة المتعددة الجوانب والكفيلة بتغيير وجهات النظر عن العصور المنصرمة ٠

٢- عوامل قريبة مثل (الشعارات)، مخيلة الجماهير تتأثر (بالصور) بشكل خاص وقوة الكلمات التي تثيرها و يصعب فهم معانيها بشكل دقيق والتي تمتلك أكبر قدرة على التأثير٠كذلك (الأوهام) فالشعوب تتجه نحو الأوهام كما تتجه الحشرة نحو الضوء ٠ فمن له مهارة إيهام الجماهير يصبح سيداً لهم٠ في الواقع أسياد العالم ومؤسسي الأديان أو الامبراطوريات ورسل العقائد ورجال الدولة العظام وعلى مستوى أقل زعماء الفئات البشرية الصغيرة كانوا كلهم علماء نفس على غير وعي منهم ٠ بحيث كانوا يعرفون (روح الجماهير) بشكل فطري وفي الغالب بشكل دقيق وموثوق، وبما أنهم يعرفونها ويمتلكوا مهارة التعامل معها، لذا أصبحوا (أسيادها) ، وتفننوا في استخدام الآليات لتتشكل (روح الجماهير) التي يحركها كيفما يشاء لكي تضحي من أجله تحت مسميات عديدة٠

رأي آخر :

بيئات اليوم لاتسعى لدعم الدكتاتوريات ونعتتهم بكل النعوت السيئة ودعت الى رحيلها الى الابد أملا في المضي قدما بعيدا عن الأنظمة الهدامة نحو أنظمة متطورة إنسانيا وبنّاءة حضارياً

يقول لوبون :

عن مجزرة سپتمبر أبان الثورة الفرنسية، حينما ذهب مجموعة أشخاص لينتفظوا ضد البرجوازيين حدثت عمليات قتل وعنف ومقاومة، وعند رجوع المقاتلين كان بحوزتهم مجموعة محافظ نقود للذين إستشهدوا في هذه الواقعة تم تسليمها لقائد المجموعة٠ يوصفها لوبون بأن هذا الموقف يرمز للشرف والتضحية وعبر عنها بعملية الدفاع عن جماعتهم ضد الأعداء ونفا كونها مجزرة بحقهم كما أوصى لهم القائد٠

رأي آخر:

لايمكن قيادة الناس خلال إقناعهم بهكذا وقائع أو أعمال عنيفة لها مردود خطير وتجَمُّلُها كأَنْ شيء لم يكن ٠ بل يمكن إقناع الرأي العام أو الناس في حالة وقوع مناوشات بسيطة وأفعال عاطفية  يمكن إحتواءها من قبل الجماهير وليست الأنظمة حتى٠

واليوم تختلف الآية لانه الحجم الزمني للقتال قصير مقارنةً بأحداث الثورة (الفرنسية البروسية) التي لم تدرك الانتهاء لمدة تزيد عن قرن من الزمان٠ والسيطرة على الاحداث أسهل من ذي قبل، فضلا عن توفر الوسائل والوعي الجمعي ولايمكن أن يكون الذوبان الجماهيري بهذا الشكل اليوم٠ رغم بعض حالات الاندفاع والتهور٠أحداث اليوم جزئية وظرفية والحجم الزمني للانفلات قصير مقارنة بالعهود السابقة٠

لوبون :

الجماهير غير عاقلة وليست في وعيها الطبيعي، كونها معرضة لتأثير عميق، لحد تدفعها الى إرتكاب الجرائم باسم التضحية ٠ وهذا ما ناقشه لوبون في الجزء الأخير من أطروحته٠ والتي أثارت جدلًا في القرن التاسع عشر والتي كانت مضادة للأفكار الاشتراكية والديموقراطية السائدة آنذاك، وتلاشي الوعي والانسياب نحو التحريض٠وكل كوارث الماضي القريب التي منيت بها فرنسا وكل هزائمها والصعوبات التي واجهتها يرجح لوبون أسبابها الى هجوم الجماهير على مسرح التأريخ٠

آراء :

هنا نظرة لوبون نظرة غير واقعية، لانه لا يمكن وصف الجمهور باللاعقلانية ٠ والجمهور لابد أن يحرك فكرة، هدف أوقضية، وهذا لايتبناه إلا ألإنسان العاقل٠(غوستاف لوبون) يخرج الجماهير من الحالة الإنسانية الى اللاإنسانية وهي وجهة نظر قاصرة للمنقد ٠

مثال :

ماذا يكون رد فعلك ؟ لو تتابع أحدى المباريات في ملعب (نهائي كأس أوربا لعام ١٩٨٥) بين ليڤربول الإنكليزي واليوفنتوس الإيطالي٠ حينها توافدت أعداد كبيرة من جمهور الفريقين ٠ ولم يفصل بين الجمهور واللاعبين سوى سياج بسيط وبعض رجال الشرطة ٠ شيئاً فشيئاً بدت الأوضاع مشحونة بين جمهور كلا الطرفين، حتى تحولت الى كارثة حقيقية، وبدأ جمهور ليفربول برمي الحجارة على جمهور يوفنتوس الإيطالي وسط حالة من الشتائم وأعمال الشغب، حتى انفجر الملعب وخرج جمهور ليفربول وأخترق السياج الحديدي وهجم على الجمهور الاخر بكل شراسة ٠ فلقي (٣٩) شخص حتفه أثر ذلك وتعرض أكثر من (٦٠٠) شخص للإصابة، وتحول المشهد الى أسوأ الأيام في كرة القدم٠

السؤال : ماهو سبب إشعال ليفربول هذه الشرارة ؟ مع أن الادب والتهذيب من سمات الشعب البريطاني لان الشعب البريطاني إحتل المرتبة الأولى في هذا المضمار بناءاً على دراسة أجريت سنة (٢٠١٠ حول الادب في الثقافة الاوربية)٠

هذا الحدث يؤكد صحة نظرية لوبون في قوله ( تلاشي الشخصية الواعية وسيطرة الشخصية اللاواعية في الجمهور بسهولة ليصبح سريع الانفعال، لانه يتحرك بناءاً على العواطف، ويفقد القدرة على التفكير العقلاني في لحظة ما، الابله والمثقف عندما يجتمعان في الجمهور يكونوا سواسية كشخص واحد)٠ هذه الواقعة المؤلمة تدعم نظرية لوبون بجدارة ٠

 

الجدوى من الكتاب

على أنقاض تلك السلطات العديدة التي سحقتها الثورات نجد أن هذه القوة الجديدة هي الوحيدة التي نهضت وترسخت ويبدو أنها تمتص الآخريات قريباً٠ وفي الوقت الذي أخذت الاعمدة القديمة للمجتمعات تتساقط الواحدة تلو الأخرى، فإننا نجد (الجماهير) هي القوة الحقيقية الوحيدة التي لا تهددها أي شيء وهي القوة التي تزداد هيبتها وجاذبيتها باستمرار والعصر الذي ندخله الآن هو (عصر الجماهير) هكذا شهدت الدول العربية ذروة التغيرات للمشهد السياسي والاجتماعي أعقاب انتفاضات وثورات الربيع العربي وأصبحت القوة الجماهيرية حينها المتحكم الأول في الأحداث وقوة دفع عجلة التغيير٠

رغم الرأي الذي يدعو ( النظر لهذا الكتاب نظرة ناقدة)، كتاب غوستاف لوبون هذا المفكر الكبير الذي يعد من أوائل من إكتشف علم (سيكولوجية الجماهير)  يعود لحقبة زمنية لها خصائصها ومميزاتها خلال الثورة الفرنسية والقرن التاسع عشر، وظروف الاعتراض على الكنيسة والمتغيرات التأريخية التي صاحبت كتابته وتأليفه٠

تعتبر (الثورة الفرنسية ) اليوم فترة مهمة جداً وفق المنظور الحديث، لان الجمهور الفرنسي الذي شارك هذه الثورة (قدم فكرة الديموقراطية في مشاركة الشعب السياسة والحكم ) رغم إختلاف منظور لوبون بسبب أعمال العنف والشغب الذي رسم صورة غير إنسانية في مخيلته وأثرت على قناعاته ، فمشاركة الجمهور الاعمال التي حدثت على مسرح التأريخ  كانت هي الأساس في بناء دولة ديموقراطية حديثة  (وتفعيل هذه فكرة لأول مرة في التأريخ) ٠

أرى أن المفكر والمؤلف (غوستاف لوبون ) حلل نفسية الجماهير برؤية عميقة وإقتدار وهذا ما نلتمسه في العديد من الجوانب التطبيقية ٠

قلما تخلو التحشدات من أعمال شغب وعنف٠ وخاصة في حالة الحشود السياسية والانتفاضات الشعبية  والمسيرات الغير سلمية٠ وهذا ما التمسناه في الانتفاضة الشعبانية ٠عندما هبت الجماهير ضد الأنظمة الطاغية الدكتاتورية بشكل عنيف كونها محملة بتراكم الكره والانتقام٠ التي انفجرت في العديد من دول الوطن العربي بما فيه العراق ٠ رغم اننا لانجزم براءتها من عمليات التخريب من قبل البعض التي إستغلت فرصة الفراغ الأمني ، لكنها في حقيقتها جاءت كرد فعل وانتقام لحكم البعث الطاغي الجاثم على مقدرات الشعب العراقي لحقبة طويلة من الزمن، مدفوع باجهزته الأمنية والحزبية الظالمة، لتنطوي صفحة حقبة مظلمة مليئة بالاهوال والمآسي والاستغلال٠ التي اشعلت فتيلة الانتقام الشعبي في كافة مدن العراق بما فيهم الكورد وباقي المكونات الأكثر تضررا بهذا النظام، لتشرق شمس الحرية والكرامة من جديد وإلتئآم آلام السنين والويلات التي ذاقها المواطن العراقي وهنا أثبت الجمهور الجدارة والاقتدار إيمانًا بمبادئه لوضع الخطيئة والحق في الميزان٠ والصورة تنصر جزء من نظرية لوبون٠