المقاومة المسلحة ضد الإحتلال، غزة نموذجا- د. عبدالباقی مایی

 

١٩\٨\٢٠٢٤

عندما نصف المقاومة ضد أیة سلطة إحتلال دون تسییسها نكون قد وضعناها فی حقیقتها النفسیإجتماعیة. وهذا یعنی وصف طبيعة المجتمع و الوضع النفسي لشخصية الفرد المشارك فی المقاومة فی هذا المجتمع. وبذلك يعتمد تعریفنا للمقاومة فی هذه المقالة علی أسس نفسإجتمایة بعيدة عن السياسة والأسس القانونية فی الأنظمة المعتمدة فی الأمم المتحدة أو غيرها من أنظمة الدول القومية فی العالم.

المقاومة ضد الإحتلال تعني حرفيا أن یتخذ المقاوم، فردا كان أو مجتمعا، موقفا معارضا للسلطة التي تأتي من دولة خارجیة لتفرض نفسها بقوة السلاح علی المجتمع الذي يرضخ تحت الإحتلال، فتفرض عليه نظاما یناسب مصلحتها. وهذا الموقف المعارض ضد سلطة الإحتلال لایتمكن فی بادئ الأمر من منع العمليات التي تقوم بها سلطة الاحتلال سواء كانت عمليات عسكرية أو أمنية أو  إقتصادیة أو فكریة، فتجبر علی الخنوع والخضوع والقبول بالأمر الواقع. لذلك تقمع سلطات الاحتلال جميع مظاهر المعارضة العلنية و تسن القوانين الملائمة لها محاولة منها لكبح جماح المعارضة وسلب الحريات الشخصية جميعها إلا ما تتفق مع النظام الجديد.

عادة ما یكون الشعب المقاوم فی مرحلة متأخرة من تطوره الإجتماعی فیشعر بالنقص تجاه سلطة الاحتلال ویجد نفسه فی مركبة الدونية فیقبل بذلك جمیع شروط سلطة الإحتلال التي تتحجج بجهل المجتمع و تأخره سببا فی اتخاذها عمليات الاحتلال دون الإهتمام برغبة الشعب المضطهد أو إرادته فی تقرير مصيره بنفسه. أما الصفات السائدة فی المجتمع المضطهد الذي يقبل بسلطة الاحتلال وشروطه فهی تتسم عادة بجماعیة نظامه الإجتماعی وفق تسلسل التطور البشري فی علم طبيعة  الإنسان “الأنثروبولوجيا” بعكس المجتمع المتطور الذي يسود فیه التركيز علی قيمة الفرد فوق قيمة الجماعة أسرة كانت أو عشیرة أو حزبا أو قومية…الخ.

بعد مجئ صراع الطبقات فی المجتمع الرأسمالی وفق تعريف مؤسس النظریة الإشتراكیة كارل ماركس ظهرت الحركات التحررية فی العالم المتأخر للخروج من سيطرة الاستعمار الذي كان یمیز نظام الدول الغنية فی سيطرتها علی الدول الفقيرة المتأخرة فی سلم التطور الإجتماعی. فتطورت الحركات التحرریة للشعوب والقوميات المضطهدة لتكون قواتها المسلحة بالفكر الإشتراكی وتناضل ضد سلطات الاحتلال، فتحررت بذلك شعوب كثيرة لتكون دولها القومية فی العالم المعاصر. وعندما إزداد عدد الدول التی تحررت من الاحتلال و الاستعمار وتبنت نظاما إشتراكیا معاكسا للنظام الرأسمالي إنقسم العالم إلی معسكرين فی حرب باردة یسود فی أحدهما النظام الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمریكیة وحلفائها و إتسم المعسكر المضاد بالنظام الإشتراكی الداعم للحركات التحررية فی العالم بقيادة الإتحاد السوڤییتی.

وعندما إنهار الإتحاد السوڤییتی فقدت الحركات التحررية فی لعالم الكثير من دعمها فأخذ المعسكر الرأسمالي برئاسة أمريكا یتصرف بوحده فی حكم العالم وأخذ يستعمل لقب “الإرهاب” ضد كل حركة تحررية مسلحة لا تلتزم بقواعدها فی العمل. من ضمن تلك الحركات التحررية التی نالت لقب الإرهاب كانت حركة التحرير الوطني الفلسطينی “فتح” بقيادة “ياسر عرفات” وبعدها جاء حزب العمال الكوردستانی “پكك” بقيادة “عبدالله أوجلان”. إستطاع ياسر عرفات أن یزیل لقب الإرهاب من منظمته بإجبار منظمات المقاومة علی ترك “فتح” فحصل بذلك علی جائزة نوبل للسلام، أما عبدالله أوجلان ففضل السجن علی إزالة فلسفة المقاومة من حزبه. هذه من إحدی أوجه الشبه بین حركة تحرير فلسطين و حركة تحرير كوردستان، و هی كثيرة منذ تأسيسهما علی قواعد وأسس إشتراكیة مطابقة للقوانين الدولية المتعلقة بحقوق الشعوب. و قد أجبرت الكثير من الحركات التحررية فی العالم علی الإستسلام بينما لازال عدد متزايد یعاني من نعتها بالإرهاب وهی فی حقیقتها تحارب سلطات إحتلال تستحق بجدارة لقب الإرهاب.

ما یحدث الآن فی غزة إمتحان صعب و صارخ و صامد لیس فقط لشعب فلسطين ومقاومته ضد الاحتلال الإسرائیلی بل هو نموذج جید للكفاح المسلح لجميع الشعوب التی تناضل من أجل الحصول علی حريتها ضد سلطات الاحتلال، واكثرها شبها هی الحركة المسلحة لتحرير كوردستان. فهل من وسيلة أفضل من الكفاح المسلح للنضال سلميا من أجل الحصول علی حقوقها فی الحرية والإستقلال دون اتهامها بإنفصال أو إرهاب؟