لستُ أدري إن كان البَعض ممن رافق في مَسيرة حياته الكوردية في سوريا يستطيع أن يضبط أعصابه، ويتفوق على جوانب الأنانية التي تكمن في قاع سريرة كل إنسان وهو يُعايش تطورات الأحداث على الساحة الوطنية للشعب الكوردي بعد أن خط الشيب شعره وأصبح يستعيد ذكريات نضاله مع رفاق الدَرب الطويل المُمتع والشاق الذين فارقتهم الحياة في المَحطّات الأولى من رحلة العَمل المُشرّف.
رفاقنا الذين قَضوا حياتهم منذ الصّبا وعَبر سنوات فتوة الشباب وربيع العمر الملئ بالحيوية والعواطف الجياشة في عشق الكورد وكوردستان والإرادة الفولاذية التي كاسرت الكثير من الصّعاب وَتَحدّت قوى الإستعباد نَذكرهم بكلّ فخر واعتزاز ليس فقط إعترافا بفَضلهم – إن كان النضال في سبيل قضية عادلة يُعتَبر فَضلا – الذي أيقظنا من غَفلة إهمالنا لهَويتنا، وابتعادنا عن أداء واجب النّضال من أجل تَحرر الإنسان الكوردي من نسيان الذات والإستهوان بالكرامة الوطنية.
هذا لَيس فقط تقديرا واعترافا وَفخرا بل أيضا أرى أنّ المُساهمة في ذكر مَحاسن مُشاركتهم في مَعركة البقاء ضدّ مُؤامرات التّذويب وَمشاريع إقتلاعنا من الجُّذور حافزا لتَوعية الأجيال التي تلت سنوات النضال الأولى وتحفيزهم على حَمل الشّعلة التي أوقدوها وليرفعونها عاليا لتكون نورا يضئ طريق الدّرب الشاق الذي ساروا عليه تباعا بعد آبائنا وأجدادنا.
إنّ تَدوين ذكراهم وتَوثيق مآثر المُناضلين واجب بل عمل ضروري لأنه جزء من سلسلة الأحداث التي تشكل تاريخ الكورد وكوردستان كما يَجب الحفاظ عليها لأنّها ذاكرة الأمة الكوردية وحقيقة وجودها.
وكتابة التاريخ وتَوثيق شخصياته يَجب أن تكون مُطابقة للوقائع وصادقة في ذكر الأحداث لأنّها مُلك للشعب وأمانة التاريخ وبقدر مايكون تدوينها صادقا وغير منحاز سلبا أو إيجابا نَكون بذلك قد قُمنا بعمل جَدّي بأدائنا وقدّمنا صورة واقعية عن تاريخ نضال شعبنا للأجيال القادمة في سبيل الحفاظ على شّخصيته ونَيل حُريته أسوة بباقي شعوب العالم.
وقَد كَتبتُ عن مآثر بَعض الرفاق الذين إنتشلهم المَوت من بين صفوف المناضلين الأمر الذي أدى بهم إلى مُغادرة قطار النضال الحزبي والقومي كَما حاولت في كلمات التأبين أن أعطيَ الصّورة الحقيقية لهؤلاء الأخوة المناضلين بالقَدَر الذي كنتُ أحتفظ به عنهم من ذكريات مسيرتهم النضالية أثناء مشاركتهم في الحياة الحزبية بكافة جوانبها الإيجابية والسلبية دونَ تَملّق أو تَحامل.
وَشاء القدر مؤخرا أن يَخطف الموتُ القاهر واحدا من أوائل الكوادر الأولى لأول حزب سياسي كوردي في سوريا وكان من الطبيعي بل من واجبي أن أكون من أوائل المشيعيين. كما قُمت بشرف إلقاء كلمة تأبين تَضمّنت نُبذة واضحة عن حياة الأخ الراحل النضالية مُستندا إلى يقين مَعرفتي الحزبية به ووفق معلوماتي الدقيقة الصادقة عن محطات حياته النضالية في الوطن ولم أنسى أيضا أن أشير إلى إستمراريته في الإلتزام بخط النضال القومي في خدمة اللغة الكوردية بهمة عالية والدعوة إلى إحياء تراث الشعب الكوردي وأدبياته بجدية رغم كبر سنه والإعياء الذي كان قد أصاب جسده وذلك حتى آخر لحظة من حياته.
طبعا، لم أضَع الأخ الراحل في صورة الإنسان المَعصوم عن الخطأ، كما لم أتَخطى الوَصف الواقعي في سياق سَردي لمراحل نضاله الحزبي المُشرّف بمُجمَله ضمن الإطار الإيجابي للوصف الصادق كما لم أرى سببا في إطرائه بأعمال بطولية خارقة، بل إكتفيت بذكر ميزات شَخصيته وتقديري العالي لمُساهماته الشجاعة في تنفيذ المهام الحزبية وأثناء نضاله الحزبي القصيرة نسبيا والمرحلة التي تَلت غيابه عن صفوف البارتي بَعده وثُم في بلد المَهجر يَقينا مني أنّ المُبالغة في الوَصف والتركيز فقط على إطراء الإنسان المُناضل والإمعان في الإطراء لا يعودان بالنّفع على سُمعة هذا المُناضل وأعتبرهما ضربا من أشكال الإبتعاد عن المصداقية وتزويرا للحقيقة وإخلاء بنزاهة تَدوين التاريخ وإبتعاد عن السلوك العلمي في تَوثيق تاريخ الشّعب وَسَرد السّيرة الذاتية لحَياة المُناضلين الذين ساهموا بهذا القدر أو ذاك في نشر الوعي القومي ومقاومة التذويب العنصري والتغيير الديمغرافي ونصرة قضيته العادلة.
بَل يُصبح الإكثار والمُبالغة في مديح هذا المناضل أو ذاك ، هذا الحزب أو ذاك الفصيل الكوردي جُزءا من تَضليل الشعب وتكريس الإنشقاقات ومُساهمة – عن قصد أو غير قصد – في تَعميق شق الخلافات بَين الحَركات والمُنظمات والأحزاب الكوردية لأنّه يُصبح في بعض الحالات تزويرا للوقائع،ومشاركة عملية في أعمال تضليل الرأي العام وخاصة في أيامنا هذه التي نعيش فيها كثرة وسائل التّواصل الإجتماعي وَتَسابق العَديد منها في نقل الآلاف من أخبار الأحداث المُختلقة وغزو عقول الناس بالأخبار المُزورة والصُور المُشوهة وبسُرعة فائقة لتَطال كُلّ مايَمُت بحَياة البشر من صلَة.
والسؤال الذي أود أن أطرحه أيضا على الأخوة الذين يتحدثون فقط عن مآثر هذا المناضل من هذا الحزب أو التنظيم أو الحركة…ويمجدون به بعد أن وافته المنية التي لامفر منها ليخرجوا بأفضاله وأمجاده ويشيدوا بأفكاره وليظهر للجيل الناشئ كالقديس المنقذ والبطل الذي لايهاب أحدا والمناضل العصامي الذي ضحى بكل غال ورخيص من أجل تحقيق مبادئ الحزب أو الحركة أو التنظيم الذي كان يقوده ويتزعمه:
إذن لماذا لَم يُحقّق الحزب الأم ثُمّ مَن شَق صُفوفه والذين أعلنوا عن تشكيل ذلك الحزب المنشق وثم خرجت إلى الساحة مجموعات تدعي صواب طريقها وَتَتهم الآخريات بأقسى التّهم؟
لماذا فشل الجّميع حتى الآن في تثبيت وجود الشَعب الكوردي في سوريا كقومية أساسية تسكن أرضها ولها الحق في وطنها؟
لماذا فشل الجميع في إلغاء مشروع الحزام العربي؟
لماذا…ولماذا…أصبح العدد الرقمي للمنظمات السياسية الكوردية في سوريا كبيرا لدرجة يعجز المؤرخ في توثيق أسمائها والتعرف على مبادئها والكشف عن حقيقة الدواعي اللتي دعت إلى تشكيلها؟
أعتقد جازما أننا نَحتاج إلى مُمارسة النّقد والنّقد الذاتي الذي أقر به دستور أول حزب كوردي ولكن تغافلت القيادة الحزبية بعد ذلك عن الإلتزام به تحت تأثير الأنانية الفردية والتبعية للأشخاص والتضحية بالمصلحة العامة على حساب الأنانية الفردية.
إنه من فضائل آدابنا وخصائل تراثنا أن نذكر رفاقنا الذين يفارقوننا بالحسنى ولكن ليس بالضرورة أن ندعو إلى تخليدهم بأوصاف وهمية إرضاء أو تملقا أو لتحقيق مكاسب شخصية على حساب قضيتنا المقدسة.
إبراهيم شتلو
30 سبتمبر/ أيلول 2024