حكم الله بشكل عام يهدف إلى بسط العدالة واستتباب الأمن وتوفير الحياة الحرة الكريمة للناس واعمار الأرض وهذا ملخص ماجاءت به الرسالات السماوية ، فإذا عجز الدعاة إلى حكم الله أن يقيموا ما يريده الله وبنفس الوقت ينجح أصحاب العقول العلمية البعيدين عن التفكير الديني في القيام بذلك فمن الغباء اتباع ومناصرة الدعاة الذين ينادون بحكم الله وترك اصحاب العقول العلمية الذين حققوا ما يريده الله . لتقريب الصورة فلنأخذ هذا المثال ، شاب تم إلقاء القبض عليه متلبساً بجريمة السرقة ، يجب القصاص منه وتطبيق حكم الله عليه بقطع يده ، والهدف من قطع يده عقاب إلهي له ومنعه من السرقة ثانية ، يأتي شخص علماني عقلاني يقول لا ، أنا سأخذ هذا السارق الشاب قبل أن تقطعوا يده ، يأخذه لطبيب نفساني لعلاج حالته النفسية التي ادت به إلى القيام بالسرقة ثم يدخله في مدرسة تربوية تعليمية أخلاقية ثم تأهيله للعمل ثم يوفر له سبل العيش الكريم وعمل يناسب مقدرته فتكون النتيجة أن يتحول هذا السارق من إنسان ضار لنفسه وللمجتمع إلى إنسان صالح نافع لنفسه وللمجتمع ويمتنع بعدها تماماً عن السرقة ، ففي الحالتين لم يعد هذا الشاب يفكر بممارسة مهنة السرقة بل ويبتعد عنها نهائياً ، ولكن الفرق بين الحالتين حالة قطع يده وحالة إعادة بناء شخصيته وتأهيله تظهر لنا بوضوح في النتائج ، في الحالة الاولى توقف السارق عن السرقة بسبب قطع يده التي بها كان يسرق ، بماذا يسرق بعد قطع يده ؟ولكنه بنفس الوقت لم يعد يستطيع القتال ولم يستطع العمل ولم يستطع مساعدة نفسه للعيش فيضطر إلى التسول ولا يستطيع الزواج لأنه لا توجد أمرأة تتزوج معاق غير قادر على العمل فيصبح عالة على نفسه وعالة على المجتمع وأكيد سيعاني من امراض نفسية تضاف إلى مرضه النفسي الذي دفعه لامتهان السرقة ، أما في الحالة الثانية فيصبح إنساناً نافعاً لنفسه ونافعاً للمجتمع ، في الحالة الأولى وهي حالة قطع يد السارق هو تطبيق لنص قرآني عمل بها الفقهاء لإرضاء الله دون أي تلاعب ، وفي الحالة الثانية عمل بها العقلاء العلماء كحقيقة علمية مدروسة وأيضاً لإرضاء الله لأن الله حتماً سيرضى عن العمل العلمي الصحيح النافع يضاف إليها إرضاء المجتمع وإرضاء ذات السارق وإرضاء لعياله ، إذا كان الله يرضى عن تصرف العقلاء ويعتبره عملاً صحيحاً ومقبولاً فهذا يعطينا دلالات بأن الله يقف مع العقل لا مع النص . فهل هذا يعني بأن النص خطأ أرتكبه الرب ؟ النص موجود في الكتاب لكن ليس فيه أية تفاصيل حول قطع اليد فقط اقطعوا يد السارق ولا يمكن للإنسان مهما بلغت منزلته وعلميته أن يضيف التفاصيل من عنده على حكم الله . أو يكون وكيلاً بأسم الرب ، فكل عمليات قطع اليد التي حدثت فعلاً وأقرها الفقهاء على طول ١٤٠٠ سنة ولكل المذاهب كانت اجتهادات شخصية ليست لها تفاصيل بالنص القرآني ولا يمكن أن ترضي الله لأن الله لا يمكن أن يرضى عن سلوكين متناقضين بنفس الوقت ، فمن حقنا أن نسأل من الذي اخطأ الفقهاء أم العقلاء ؟ لا يوجد عاقل يستطيع القول بأن العقلاء قد أخطأوا لأن أحياء النفس هو احياء للمجتمع وللناس جميعاً وهذا مبدأ من مبادىء القرآن الكريم ، أما الفقهاء فقد أخطأوا عندما رفضوا الانصياع للعقل وقتلوا النفس فكأنهم قتلوا الناس جميعاً حسب القرآن واعتبروا النص هو قانون ثابت ، وعندما احتاجوا إلى تفاصيل قطع اليد اضطروا أن يختلقوا التفاصيل من عندهم والدليل هو اختلاف الفقهاء في كيفية قطع اليد ومن أين تقطع اليد ومتى تقطع اليد بينما لم يختلف العقلاء بأن إصلاح الإنسان وإعادة تأهيله هو السبيل لمنع تكرار السرقة ، فهذا يدلنا على أن أي نص قرآني ليس فيه تفاصيل واختلف فيه الفقهاء في التفاصيل حسب فهمهم البشري المحدود فأنه نص غير ملزم وحكم معلق ، أو أنه يخضع لتفسير روحي معنوي بعيداً عن البشاعة التي يفعلها الفقهاء بحق الإنسان ذلك المخلوق الذي كرمه الله . وهذا الكلام يشمل جميع الأوامر الالهية المذكورة في النصوص القرآنية التي تخلو من التفاصيل وأختلف الفقهاء في إضافة التفاصيل كل حسب اجتهاده . فعندما نتحدث عن العقل فهنا نقصد بالعقل العلمي الذي يستمد قراراته من التجارب العلمية ، فعندما يخبرنا العقل العلمي بأن الطب هو علم ، الزراعة هي علم ، الجامعات هي علم ، الصناعة علم فهذا الشيء لا يغضب الرب تحت عذر أن القرآن سمي الدين علم فقط ولم يذكر القرآن بقية العلوم بإنها علوم أو أن النص يسمي رجال الدين علماء فهذا لا يعني أن الرب يرفض تسمية علماء الطب والفيزياء والكيمياء وغيرهم بالعلماء . . الدين يأمرنا بعدم المساس بالميت وأن التلاعب بجسده حرام بينما علم الطب يأمرنا في أكثر الأحيان تشريح جثة الميت والمساس به لمعرفة اسباب الوفاة ، ولولا علم التشريح لما تطور علم الطب خطوة واحدة للأمام ، فهل أن الرب لا يرضى عن هؤلاء العلماء الذين سلكوا درب علم التشريح من خلال التلاعب بجسد الميت وكانت ثمرة أعمالهم دواء ورحمة للعالمين ؟ فهل الرب لا يرضى عن هؤلاء لأنهم خالفوا النص الديني عندما وجدوا بأن تطور علمهم لا يأتي إلا بتشريح جثث الموتى ؟ أكيد سنتفق جميعاً بأن الرب سيبارك تلك الايادي التي شرّحت جثث الموتى وتلاعبت به رغم عصيانهم للنص الديني ، الكلام أعلاه كله مقدمة لمفهوم الدولة العلمانية أي الدولة التي تبنى على أساس العلم تكون هدفها الأسمى خدمة الإنسان ورفع قيمة الإنسان بشكل علمي صحيح وتأسيس القضاء العادل وإنشاء مؤسسات علمية خدمية عملية أمينة وتسليم شؤون البلاد بيد أصحاب الاختصاص فهل هذا يغضب الرب ؟ نفس هؤلاء العقلاء الذين رضى الله عنهم في معاملة السارق قاموا ببناء الدولة العلمانية ومنحوا الإنسان الاحترام و الحرية والكرامة والعزة ، والرب في جميع نصوصه المقدسة يؤكد على مكانة الإنسان وقدسيته ، فهم يلتقون مع الخالق في اهدافهم الإنسانية بل هم عباد الله المخلصين ، فهل الذي يعطي للإنسان القدسية مثلما أعطاها الرب للإنسان عندما أمر الملائكة أن يسجدوا له على صواب أم الذي يقود الناس للموت وللمهانة بأسم الرب على صواب ؟ الدولة العلمانية العلمية تتوافق مع كل ما ذكرناه أعلاه ، أما الدولة الدينية فإنها تخالف كل ما ذكرناه وتعتقد بإنها تعمل امتثالاً للنصوص الدينية وإنها تضطر للمذابح والحروب وقتل الناس لأن النص القرآني يآمرها أن تفعل ذلك بغض النظر عما يصيب الناس من الالام والويلات ، وهم مصرون عليها لأن في حساباتهم الإنسان عديم القيمة طالما هناك إرضاء لله كما يظنون ، لذلك نقول يجب النظر إلى مبادىء الدين الأساسية التي يريدنا الله تطبيقها لا إلى نوع الإنسان ولباسه الديني الذي يطبقها ، فلم يفلح الفقهاء ورجال الدين طوال تأريخهم في تطبيق مبادىء الدين الأخلاقية السامية ولم يفلحوا ببناء الإنسان السوي السليم ولم ينجحوا في بناء الأوطان بل طبقها ونجح في تطبيقها من سلك طريق العلم ولم يلتفت للنصوص الدينية ولا إلى تأويلاتها وهؤلاء هم أصحاب العقول العلمية الذين حاباهم الله لخدمة البشرية دون تمييز بين سيد وعامي ، بين أبيض وأسود ، بين مؤمن وكافر ، فهؤلاء حتماً سيحبّهم الله ويسدد خطاهم وينصرهم نصراً عزيزا .
Related Posts
11 Comments on “أيهما أصح ، تطبيق حكم الله أم تطبيق حكم العقل ؟- كامل سلمان”
Comments are closed.
يا استاذ الكريم. خلق الله انسان باحسن تقويمة . ولكن هم شرحو و فصلو كيفما يريدون . و القرآن الكريم غير كامل. ولكن 90 المسلمين جهله ولا يعرفون شي عن دينهم و فقط يتسمعون كلام المللالي و الكذابين. ولا يقرؤون لايعرفون الحقيقة
تحياتي سيد Marvin
أشكرك دوماً لمداخلاتك وإبداء رأيك حول جميع المواضيع السياسية والعقائدية والفكرية بالرغم من ضعف اللغة أحياناً الا أن القصد واضح وهذا هو المهم ، تحياتي
آيات القران وليدة ثقافة بيئة الصحراء الخشنة (المتخلفة انذاك)، ولم تكن هناك بالطبع مدارس تربوية تعليمية أخلاقية لتأهيل السارق للعمل. وفي تلك البيئة الخشنة لم يكن هنالك سوى عقاب واحد لا غير لردع السارق عن السرقة الا وهو قطع اليد. ايات القرآن جاءت في هكذا بيئة و ثقافة، وحديث محمد (والله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ولم يقل (سأدبها واصلحها لتكون أما صالحة لتربية أولادها) ما الذي منعه من ذلك؟ ونراه ينتقد الاقوام الأخرى (إنما هلك الذين قبلكم، انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) والحد هنا يعني قطع اليد. اما تأويل معاني آيات القرآن دون دليل نصي من القرآن نفسه او من الأحاديث الصحيحة فهو يعني شيئا واحدا لا غير هو تحريف معاني القرآن وترقيعها من اجل تهذيبها بما يصلح ثقافة عصرنا، عصر حقوق الإنسان. لكن القرآن نفسه يعارض بشكل صريح مثل هذا الترقيع (ومن لم يحكم بما انزل الله فاؤلئك هم الكافرون). هذا هو القرآن، اما ان تأخذه كما هو، وكما جاء دون تحريف زيادة او نقصا، وأما ان تلقيه جانبا لنفاذ تاريخ صلاحيته معترفا انه جاء مرآة لثقافة عصره و بيئته انذاك.
الاخ قاسم كركوكي ، مداخلاتك دائماً فيها عمق وقوة رأي ، أنت وأنا والجميع يعلم بأن ثقافة القرآن أصبحت جزءاً من ثقافة المجتمع ، فنحن هنا لا نسعى الى إلغاء ثقافة القرآن أو إلغاء ثقافة المجتمع ولكن تحديث ثقافة المجتمع جداً ضرورية لمواكبة الحياة ، ولا يستطيع الفقهاء التماشي مع هذا التحديث بسبب تخوفهم من الابتعاد عن النص الديني ولكن بناة الدولة المدنية يستطيعون فعل ذلك ، الدين يبقى جانباً روحياً مهماً للحياة ، أما جعل الدين شماعة لتوقف عجلة الحياة فهذا مرفوض عقلاً وأخلاقاً ، وهنا تكمن أهمية الدولة المدنية العلمانية التي لا تلتزم بالنص الديني ولكنها بنفس الوقت تعمل على خدمة الإنسان وإرضاء الرب ، تحياتي
شكرا استاذ العزيز كامل على هذا المقال…كم انت ذكي ومحترم ولا تريد أحدا اي من كان ان ينزعج منكم سوى كان المعلق ديني او لا ديني وردودك على التعليقات خير دليل..وهذا هو صفات الانسان الإنساني البحت..خطاباتتكم جدا شديده وثوريه يعني جذرريه ومع نفس الوقت انسانيه واحتراميه للجميع يعني المؤيد وغير المؤيد وفيها خطوط رجعه عظيمه للتفاهم …جل احترامي لهذه الثقافه العاليه التي تخدم بالشكل السليم للمجتمعات. بالغ تحياتي وأرجو أن يكون تعليقي واضح لجنابكم
الأخ العزيز خدر
كلماتك وأسلوبك دليل واضح على رقي أفكارك وطيبة أخلاقك ، أشكرك كثيراً ، وتعليقك واضح جداً بلا أدنى شك ، محبتي
الاخ كامل سلمان،
اولا اشكرك على اختيارك الموفق لمواضيع مقالاتك القيمة التي تحفز على المتابعة وايضا المساهمة في التعليق عليها.
في تعليقي أعلاه لم يكن هدفي سوى القول بأن الدين الإسلامي لا يشبه اي دين آخر يسمح بتشذيبه و تطعيمه بالمباديء المعاصرة لتطور العقل والفكر الإنساني. انه دين لا يقبل الرمادية، اما اسود او ابيض. اما ان تكون معه قلبا وقالبا، وأما انت ضده، ولا يمكن الجمع بينهما، لذلك قال (ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون). فكيف ترضى الرب (الله) وهو يصنفك في خانة الكفار؟ مع التحية.
أخي قاسم كركوكي
أنا أتفهم تماماً ما تقول ، لكن أفكاري تصب في بودقة واحدة هو أن النص الديني لا يمكن تطبيقه بدون إجتهاد الفقهاء ، وهنا مفترق الطرق لأن الفقهاء عقولهم مرتبطة بأفكار ضيقة محدودة فينقلون النص حسب أفق عقولهم وهذه هي الكارثة ، فضربت مثلاً عن السرقة كيف أن الفقهاء تفننوا وأختلفوا ببشاعة قطع اليد فأصبح اللوم على النص الديني وخرج الفقهاء منها سالمين مع العلم أن اجتهاد الفقهاء اساء للنص . كان على الفقهاء أن لا يحشروا أنفسهم ويسيئوا لكرامة وقيمة الإنسان ويفسروا النص بطريقة إنسانية اخلاقية راقية ( لأن قطع اليد في اللغة تتقبل تفسير منعها من السرقة ) كما جاء في اللغة ( يقطعون سبيل المعروف ) أي يمنعونه ، تحياتي
لكن الحديث يقول (والله ولو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وقطع اليد هنا لا تعني سوى قطع اليد، ولا يجوز أن نحشر معنى اخر يخالف سياق نص الحديث الذي يتطابق مع الآية (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما). وهذا يعني ان عقوبة قطع يد السارق والسرقة حد من حدود الله في الاسلام، ومن يحاول الالتفاف على او إيقاف هذا الحد يعتبر كافرا (ومن يحكم بما انزل الله فاؤلئك هم الكافرون) لان ذلك عصيان لله ورسوله في نظر الدين وجزاءهم بحسب الآية (ومن يعص الله ورسوله و يتعد حدوده يدخله نارا خالد فيها وله عذاب مهين). هذا هو الدين، لا منطقةرمادية فيه، اي انك لن تستطيع أن تمسك العصا من الوسط. مع التحية
بما أنك تستشهد بالايات حول قطع اليد أعطني الجواب على سؤالي ( متى تقطع اليد ، كيف تقطع اليد ، من أي جزء تقطع اليد ) أعطني الجواب دون أن تأخذ بآراء الفقهاء ، أعطني الجواب من القرآن أو الحديث ( هنا أريدك أنت أن تطبق حكم الله ) كما تقول . وإذا لا يوجد لديك جواب فكلام الفقهاء هراء وما طرحته في مقالي هو عين الصواب .
ومتى اخذت انا في تعليقي بآراء الفقهاء؟ لقد استشهدت بأية قرانية واضحة في معناها لا تحتاج إلى تأويلات (لغوية) ولا ترقيعات، ومستشهدا بحديث صحيح جاء في نفس سياق معنى الآية. هذا هو صلب الموضوع الذي كنت اناقشك عليه. وبعد أن وجدت نفسك عاجزا عن الرد في ذات الموضوع، قفزت إلى موضوع اخر، هو كيفية قطع اليد ومتى يتم القطع، وجعلتني قاضيا في المحكمة!! مرة أخرى اكرر، ان قطع اليد في الآية وفي الحديث لا تعني سوى قطع اليد، وعليك أن تثبت بالدليل والبرهان من القرآن والحديث عكس ذلك. موضوع الدين لا يشبه مواضيع اخرى كالسياسة او الاقتصاد حتى يمكن لأي كان بأن يدلو دلوه بحسب هواه و مزاجه ويغير ما يشاء. أن كنت ترى أن آية قطع اليد منافية لمباديء حقوق الإنسان، وانها لا يمكن ان تكن من عند اله حقيقي، قلها اذن بصراحة و جرأة بدلا من محاولات فاشلة لإيجاد معان أخرى لها. أن تضع قدمك في خانة الدين و قدمك الأخرى في خانة العلمانية محاولة فاشلة، والقرآن نفسه يرد عليك (ومن لم يحكم بما انزل الله فاؤلئك هم الكافرون)