لا أعلم ما إذا كان حزب العمال الكردستاني قد أصدر بيانًا حتى الآن، لكن من الضروري أن يصدر بيانًا يتبرأ فيه من عملية الهجوم على الشركة التركية للصناعات الجوية في أنقرة، ورداً على اتهامات حكومة أردوغان، كما فعل السيد صلاح الدين دميرتاش. وإلا فإنه يضع نفسه أمام احتمالين:
1- إما أن الحزب وقيادته لم يدركوا أو لم يدرسوا بعمق تحولات الواقع السياسي والإقليمي، فقامت قيادته بتخطيط العملية بغفلة تاريخية، متجاهلين التعقيدات التي ستولدها النتائج. هذا قد يعكس عدم اكتراثهم بما قد يحدث للشعب الكردي في غرب كوردستان من كوارث متتابعة، وكأنهم يعيشون في انفصال عن فقه التبعات السياسية. كما لو أنهم لا يقدرون خطورة الأفعال في عالم تحكمه موازين قوى تعسفية؛ عالم نيتشوي يكشف عن قسوة “إرادة القوة” التركية الفاشية التي لن تتردد في المزيد من سحق شعبنا الكوردي واستغلال هذا الحدث كذريعة لتصعيد العنف.
نرجح، ونأمل ألا يكونوا هم من منحوا تركيا الفرصة لتبرير استهدافها للشعب المنكوب في غرب كوردستان والبنية التحتية المنهكة للإدارة الذاتية. وها هي تركيا قد ضمنت الصمت الأمريكي والأوروبي، كما حدث بعد العملية السابقة التي لم تكن سوى محاولة لتشتيت الانتباه، فقاعة أطلقتها حكومة أردوغان لتمرير مخططاتها الخبيثة، ولا نستبعد أن تكون المسرحية هي ذاتها. وهذا يعيدنا إلى مفهوم “التاريخ الماكر” كما يعبر عنه هيغل، حيث تُستخدم الأحداث لصالح القوي وتتحول الضحية إلى أداة في يد الطغاة لتحقيق أغراضهم السياسية.
من المؤلم أن نفكر في أن هذه الأحداث قد تكون جزءًا من صفقة سياسية عميقة تمت بين تركيا وأمريكا. تصريحات أردوغان العدائية ضد إسرائيل قد لا تكون إلا جزءًا من تكتيك أكبر، حيث تُحاك المؤامرات بصمت في أروقة السياسة العالمية، كما قال ميكيافلي: “السياسة لا تعرف الأخلاق”. وربما كانت هناك معرفة مسبقة لدى أمريكا بما يجري، لخلق الذريعة المثالية لتبرير القصف بعد الصمت الأمريكي وهي حامية المنطقة. إنه مشهد يشبه لوحة “جحيم” دانتي، حيث تتكشف الخيانات في كل منعطف، ويتحول الشعب الكوردي إلى بيدق في لعبة القوى العظمى.
2- أو أن العملية قد تكون من تدبير الدولة العميقة في تركيا، تلك الدولة التي ظن البعض أن أردوغان قد قمعها. لكنها، كما هو الحال في تاريخ الحركات السرية، تعيد تنظيم نفسها في لحظات الظلام، كما لو كانت تجسد أفكار الفيلسوف الألماني كارل شميت حول “السيادة والاستثناء”، حيث تتجدد الدولة وتعيد فرض سلطتها عندما تكون في مواجهة التهديدات الوجودية. وفي هذا السياق، قد يكون أردوغان نفسه وقع في الفخ الذي نُصب له، لتقويض احتمالات الحوار مع الكورد الذي بدأ يلوح في الأفق. وربما جاءته الفرصة لإعادة الاعتبار لحزبه ومواجهة المعارضة في ظل الظروف الاقتصادية المتردية، وإلهاء الشعب التركي بالحروب الخارجية.
حكومة أردوغان وجدت المبرر لضرب الإدارة الذاتية في غرب كوردستان، وربما لا يدرك أن العملية مخططة لتعميق فشله، خصوصًا بعد فشله في التوصل إلى تسوية مع بشار الأسد، وعدم نجاحه في إقناع روسيا والولايات المتحدة بالسماح له باجتياح ما تبقى من غرب كوردستان. هذا يعيدنا إلى فكرة “الخوف من الآخر” كما وصفها هوبز، حيث يقود الخوف من الفوضى المحتملة إلى تصعيد العنف، وتصعيد العنف ضد الكورد بدل الاستمرار في عملية المصالحة مستنقع، هناك من يدفع بأردوغان وحليفه إليها، لأنه رد فعل هستيري على موجة الفوضى التي تجتاح المنطقة، والتي قد تصل إلى تركيا كما نوه أردوغان وهاكان فيدان، ولو بطرق غير مباشرة.
وفي هذا الإطار، لا نعلم إلى أي مدى سيكون إصدار بيان من الإدارة الذاتية مفيدًا في نفي أي علاقة لهم بالعملية، لكن في كل الأحوال، يبقى ذلك ضروريًا كخطوة في محاولة تجنب كارثة مشابهة لتلك التي وقعت في الماضي.
ومن المؤسف أن نقول، كما نسمع الآن، أن الكارثة قد بدأت بالفعل. الصور المؤلمة التي تنتشر تُظهر مشاهد القصف التركي الإجرامي الذي يستهدف البنية التحتية والشعب الآمن في غرب كوردستان. إنه تكرار مأساوي لسيناريوهات غزة وجنوب لبنان، حيث تسود القسوة على حساب الإنسانية، مع وجود فرق ما بين حقوق الشعوب والقوى التي تعبث في المنطقة، ويعيدنا ذلك إلى مقولة جان بول سارتر: “الجحيم هو الآخرون”، فالأنظمة الفاشية تصنع من الآخرين جحيما لتبرير وجودها.
وبغض النظر عن أي تحليلات سياسية، يبقى العدو التركي مجرمًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى مثله مثل نظام ولاية الفقيه في إيران وأدواته. يتميز بخبث دبلوماسي يتماشى مع قوته العسكرية. إنه يعرف كيف يصنع الذرائع لتبرير تدميره، والشعب الكوردي في غرب كوردستان هو الضحية في هذا المشهد العبثي، حيث يصير الحق مغيبا خلف لعبة المصالح مثلما أصبح الشعبين الفلسطيني واللبناني ضحايا أدوات وطموحات إيران، يقتلون بأيدي إيران وأدواتها وأسلحة إسرائيلية.
على قيادة حزب العمال الكردستاني أن تواجه الواقع وتوضح لتركيا، سواء للنظام أو للأحزاب المسيطرة، موقفها بوضوح. إن كانت مصرة على عدم التخلي عن سلاحها إلا بشروط محددة، فعليها أن تطرح هذه الشروط بشكل صريح وشفاف على طاولة المفاوضات. سواء كانت متعلقة بالفيدرالية أو تعديل الدستور أو أي مطالب أخرى، يجب أن يكون هذا الطرح واضحًا. حينها، يمكن فتح باب الحوار بدلًا من الانزلاق في دوامة العنف العبثي.
من المؤسف أن نقول إن الشعب الكوردي في هذه المرحلة الحساسة ليس بحاجة إلى مثل هذه العمليات، خاصة وأن المنطقة تشهد تجزئة ودمارًا مرعبًا. أي عمل من هذا النوع يضر بالشعب الكوردي ويضعف حقوقه، مثلما حصل للشعب الفلسطيني، مهما كانت هذه الحقوق عادلة. وكما قال سقراط: “الظلم يولد المزيد من الظلم”، فإن مثل هذه العمليات قد تؤدي إلى تصعيد لا نهاية له، يفاقم من معاناة الشعب الكوردي.
ندين الإجرام التركي بحق شعبنا.
قلوبنا معكم، أهلنا في غرب كوردستان.
سلامًا في زمن وبقعة لا تعرف السلام.
سلامًا وأنتم تحت وطأة الطغاة والأنظمة العنصرية، التركية في مقدمتهم.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
24/10/2024