الكورد والمحتل، تناقض الحس الإنساني بين الاضطهاد والاحتضان – د. محمود عباس

 

رغم العمل الإنساني والدعم الذي يقدمه الإقليم الفيدرالي الكوردستاني للمهاجرين والهاربين من ويلات الحروب، وإيوائهم في المخيمات ومدنه، بما في ذلك توفير الملاذ الآمن والمساعدات الإنسانية، تظهر بين الحين والآخر أصوات مغرضة تسعى لتشويه هذه الجهود النبيلة. تحمل هذه الأصوات أجندات عدائية، تروج لاتهامات مبطنة تهدف إلى الانتقاص من البعد الإنساني والحضاري الذي يجسده الإقليم. محاولاتهم تصوير هذه المساعدات على أنها مخططات سياسية، وليست نابعة من القيم الإنسانية التي يتحلى بها شعب كوردستان، تعكس كراهية واضحة تجاه ما حققه الإقليم من تقدم وتطور عمراني.

يتناسى المتربصون بالشعب الكوردي أن الإقليم، ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية الكبيرة التي يواجهها، لم يتوقف عن القيام بدوره الإنساني. استقبال الإقليم واحتضانه لمئات الآلاف من مهاجري جنوب العراق، أي من المكون العربي، ومن غربي كوردستان، وشنكال، والمكون المسيحي الذين لفظتهم معظم مناطق العراق، بالإضافة إلى المكونات الأخرى من العراق، وتقديم الرعاية والحماية والأمان لهم، ينبع من روح المسؤولية تجاه الإنسان المعاني، ومن الحس الحضاري العميق الذي يتميز به.

لا شك، وجود بعض السلبيات من قبل بعض الإداريين في الإقليم، وانتشار أساليب غير حميدة من بعض الشرائح في المجتمع الكوردي من أبناء الإقليم، تجاه ساكني المخيمات أو الكورد القادمين من غربي كوردستان، بما في ذلك ظهور بعض التسميات المشينة بحقهم، لا يعكس سياسة الإقليم ولا ثقافة الشعب الكوردي. هذه التصرفات تمثل خروجاً عن القيم الإنسانية الكوردية، ونأمل من حكومة الإقليم اتخاذ إجراءات حازمة للحد منها وتجريم كل من يساهم في تفاقمها.

ما تبذله حكومة الإقليم من خدمات للمعانين من ويلات الحروب يجسد نموذجًا حقيقيًا للتعامل الإنساني والتعايش بين جميع مكونات الشرق الأوسط. ومع ذلك، تستمر الشرائح الحاقدة في اختلاق حجج واهية لتفاقم الكراهية ضد الحراك الكوردي لدى الدول المحتلة لكوردستان، متناسية أن الإقليم الآن يمثل صورة حية للقيم الحضارية.

الادعاءات التي تروجها تلك الأطراف بأن هذه الجهود الإنسانية تُستخدم كوسيلة للضغط على حكومة المركز ليست إلا محاولات يائسة للتقليل من أهمية هذه المبادرات. فالكل يعلم أن ما يقدمه الإقليم لا يقتصر على المساعدات المادية، بل يعبر عن موقف أخلاقي وإنساني عميق يتجاوز المصالح السياسية الضيقة. هذا البعد الإنساني يظهر في احتضانه لشعوب من أعراق وأديان مختلفة، دون تمييز أو تفضيل.

والأغرب من كل ذلك هو اتهام الكورد بالتغيير الديمغرافي، رغم إدراك الجميع أن الشعب الكوردي من أكثر الشعوب التي عانت من هذا النهج العنصري ولا تزال تعاني منه حتى اليوم. جميع هذه العمليات تمت بطرق ممنهجة ومخططات مدروسة بدقة. فعمليات الأنفال في العراق ما زالت حية في ذاكرة الأجيال، وتبعات تجريد ربع الكورد من الجنسية السورية في سوريا ما زالت ظاهرة للعيان حتى اللحظة، إضافة إلى إنكار وجود شعب يُسمى الكورد في تركيا وإيران. واليوم، التغيير الديمغرافي الكارثي الذي تشهده منطقة عفرين يتم بشكل مخطط ومدروس، وينفذ من قبل المنظمات التكفيرية بدعم تركي، إلى جانب العديد من العمليات الأخرى التي استهدفت الكورد في الأجزاء الأربعة المحتلة منذ اتفاقية سايكس بيكو.

لذلك، فإن ما يجري في جنوب كوردستان أو الإقليم الفيدرالي الكوردستاني يُنظر إليه من قِبل البعض، سواء من الكورد أو العرب العراقيين، على أنه تغيير ديمغرافي أو تفضيل لعمالة رخيصة، وهو تهجم سافر لا يستند إلى أي أسس سوى الكراهية والحقد. والغريب في الأمر أنهم لا يسألون أنفسهم: كيف يمكن لشعب أو حكومة أن يقدم على تغيير ديمغرافيته وهو صاحب الجغرافية!؟ أليست هذه تناقضات غريبة تُضاف إلى العديد من الغرائب التي تُقال عن الشعب الكوردي.

هذه الذهنية تعكس الصراع المقيت بين الفكر التنويري القائم على المبادئ الإنسانية، والفكر المتشرب بثقافات الأنظمة العنصرية المبنية على الإقصاء وكراهية الآخر. وهو ما يجعل من الصعب تجاوز هذه الجدليات وتحقيق تواصل حقيقي بين الشعوب بدون تشذيب عميق وواسع للثقافة الموبوءة المترسخة منذ عقود طويلة.

في البعد الإنساني، يجب الإشادة بدور الإقليم الكوردستاني الفيدرالي في احتضان الناس من مختلف الانتماءات، سواء كانوا عرباً أو كوردًا من الأجزاء الأخرى من كوردستان، أو تركماناً أو أثوريين وغيرهم، ممن عانوا أو هاجروا هرباً من ويلات الحروب والدمار الاقتصادي. هذا العمل يُعد مثالاً على الإنسانية النبيلة ويستحق التقدير. ففي هولير، على سبيل المثال، أصبحت نسبة العرب الوافدين من الجنوب تفوق تقريباً نسبة الكورد أنفسهم، مما يطرح تساؤلاً مشروعاً: هل هذا يُعد تغييراً ديمغرافياً لصالح الكورد أم العرب؟

أما وجود العشرات من المخيمات التي تستوعب الكورد من الأجزاء الأخرى من كوردستان، فهو يعكس بُعداً إنسانياً بحتاً. فهؤلاء لا يُمنحون الجنسية في الإقليم، ولا يمتلكون سوى إقامات مؤقتة، وحتى ممارسة المهن الحرة تتطلب وجود كفيل من أبناء المنطقة. وبالتالي، فإن الادعاءات التي تزعم أن الإقليم يجلب الكورد من الأجزاء الأخرى لزيادة ثقله الديموغرافي للحصول على نسبة أعلى من ميزانية الدولة، ليست سوى دعايات مغرضة. هذه الادعاءات تندرج ضمن مخططات تستهدف الإقليم، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل أيضاً من النواحي السياسية والديموغرافية.

كوردستان، بما تسير عليه من قيم إنسانية ورغم العداء المرير الذي تواجهه، تحمل في طياتها مقومات أن تكون دولة قومية وطنية، وربما واحدة من أفضل الدول ديمقراطية في المنطقة. ستبتعد عن التعصب القومي لأن شعبها وحكامها لا يزالون يحملون في ذاكرتهم طعم المرارة؛ مرارة التمييز العنصري، والإقصاء، والتجريد من الحقوق، والمجازر الجماعية، والحصار الاقتصادي، وغيرها من المآسي التي عانوا منها. هذا الحس الإنساني المتجذر هو الذي يدفع بحكومة الإقليم إلى احتضان الجميع، الهاربين من ويلات الحروب وكوارثها، بغض النظر عن انتماءاتهم.

ومن الغرابة أن كل عمل وطني يقدم عليه الكورد يُدرج مسبقاً كخيانة للوطن، لأن الصور النمطية التي رسختها الأنظمة الفاشية والعنصرية في أذهان المجتمع العربي والتركي والفارسي ترفض قبول أن الكورد بإمكانهم أن يكونوا وطنيين. ومن المؤلم القول إن دعوة الكورد إلى الاستقلال هي ردة فعل على ما يلاقونه من معاملة قاسية، رغم كل المطالب الكوردية الإنسانية.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

4/12/2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *