بين السياسة والإعلام سجال قائم وجدال جاري ولعبة شد ومد لا تنتهي أحابيلها أبدا.. في السياسة من الكلام ما هو لمسة بسيطة يمكنها إزاحة الغبار عن ما يؤرق النفس ويجرح الوجدان ، وفي الإعلام ليس هناك ما هو أنجع من الإرادة من أجل الاستمرار وما هو أجدى من قوة الإيمان للتخلص من متاعب المهنة وآهات المتابعات، كلاهما يدّعي امتلاك الحقيقة، كلاهما في سباق محموم لامتلاك ناصية تسويق الأفكار لتشكيل الرأي العام وتحريكه وصولا إلى توجيه السلوك نحو التأثيرفي اتجاهات دوائر النفود ومراكز صنع القرار، ومع كل ذلك لا غنى لأي منهما عن الآخر .
السياسة مادة دسمة لوسائل الإعلام، فهي منجم الأخبار، والأوساط السياسية النشطة هي مصادر معلومات تغري بالتقرب منها والتودد إليها، ففيها يجد رجال الإعلام ضالتهم للانطلاق في توسع النشر وعرض الأفكار وتبادل الآراء، ونشر التعليقات والاجتهادات الصائبة أحيانا، والمضللة أحيانا أخرى في استعراض وتحليل المعلومات، إنه مناخ الحق لازدهار العمل الإعلامي، ولكن قد يحدث أن تنفلت الأمور وتنحرف نحو عملية تراشق لفظي متبادل بالنقد والانتقاد الجارح بين مؤيدين ومعارضين وصولا إلى كيل الاتهامات، فالسياسة منطق يخضع دائما لسلطان المصلحة، وتناقض المصالح يخلق أزمة ثقة، وهذه تؤثر سلبا في العلاقات.. والحقيقة أن المشهد كله سيتحمل عبأه مؤسسات العمل الإعلامي كمنابر للسياسيين وأبواق لخصومهم المعارضين.
وبقدر طواعية وسائل الإعلام للدوائر السياسية الفاعلة والمؤثرة بقدر ما تنال الرضا السياسي الذي معه وبه تُفتح الأبواب الموصدة وتّحل مغاليق الأمور،فالسياسيون يدركون جيدا أن حاجة أي وسيلة إعلامية في الدنيا تتمثل أساسا في الخبر الحصري “سكووب” أي يكون على سبيل الانفراد والسبق المتميز ، كذلك في حاجتها الماسة للدعم المالي المنتظم الذي يحقق لها المزيد من التوسع والانتشاركسيل من الاعلانات مثلا لا ينقطع، وهذان هما من أوراق الضغط المهمة والمؤثرة جدا في نشاط الصحف والقنوات التلفزيونية سواء الحكومية أو الخاصة لارتباطهما بضمان استمرار وجودهما، وعلى ذلك يُفهم أن الغاية المستهدفة بالنسبة للإعلام هي تحقيق السبق في كشف المستور عن ما خفي في دهاليز السلطة وأركان نظامها وزواياه المظلمة، وهذا ما يُسمى بالإنجاز، وسيكون الأمر نفسه هو مصدر سعادة خصوم السلطة ومعارضيها، ولا يهم هنا كثيرا إن كانت تلك النهايات من صلب إرادة الإعلام أو ان وساطة سياسية ساقته إليها عن عمد ، فهناك من يدفعهم شغف التميز إلى اتباع كل السبل ولو كانت بعيدة عن التحفظ .
الإعلام حقل ألغام مضاد للبشر والشجر والحجر ، لا صديق يمكن دوما أن يأتمنه ، ولا حليف صادق يتبعه، كما لا عدو دائم يترصده، الإعلام خبر يعتبر تأكيده إثباتا أو نفيا مسؤولية ، ويُعد تبليغه وإيصاله أمانة، وقراءته ثقة ، وعلى قدر خطورته تُقدّر السلطة مدى ما يمكنها أن تروضه وفق ما تعلمه إلى حين . فالإعلام يبقى سبيلها لجموع المواطنين وعموم الشعب لنشر توجهاتها والترويج لمشاريعها السياسية وللمساهمة في إنجاح الحشد الجماهيري للانتصار للقضايا الوطنية، إن الإعلام بالنسبة للسلطة أو لقوى سياسية معينة هو وسيلة إثبات موقف فقط ، فهو لا يملك في الحقيقة قدرة التأثير في مجريات الأحداث، ونجد كذلك الاعتراض وهو موقف سياسي يمثل عقبة أمام تمرير مبادرة أو لائحة أو مشروع سياسي، ويكون حائلا في بداية طريق التفكير لوضعه موضع التنفيذ، وقد يُخفي وراءه حرصا على عدم تضرر مصلحة معينة بسببه أو إن شئنا أن نضعه في مكانة أعلى سموا فإنه يجوز الاعتراض على قرار يكرس هيمنة استعمارية أو مسعى يهدد السلم والأمن مثلا ، ويلاحظ أن الاعتراض يكون في مرحلة الدراسة والنقاش، وعندما نتحدث عن المرحلة العملية فسنواجه موقفا يتميز بأنه أكثر تفصيلا ووضوحا ويتمثل في الرفض وهو يتجاوز في مضمونه ومعناه المداولات داخل قاعات الجلسات حيث سيتعلق بعدم التجاوب النهائي مع أي التزامات ستترتب لتنفيذ قرار سياسي ما ، كما لا يمكن انتظار أن يستشعر أصحاب هذا الموقف أي واجب من أجل المشاركة في النهوض بمسؤوليات محددة مرتبطة بما سبق الإعلان عن الاعتراض عليه سواء كانت ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو عسكري، ومثل ذلك الاعلان عن رفض السماح بشن اعتداءات مسلحة لقوات أجنبية انطلاقا من الأراضي الوطنية ضد دولة أخرى، أو السماح بفتح المجال الجوي لمرور اسراب طائرات صديقة للإغارة على دولة أخرى مجاورة ، أو الموافقة على تقديم معونات لوجستية لقوات صديقة ، وقد يتطور رد الفعل السياسي إلى حد التنديد الذي ينصرف إلى إعلان موقف عدائي صريح من طرف أو أطراف اتخذت موقفا سياسيا معينا تصل انعكاساته إلى حد التهديد بمخاطر جمة على حالة السلم والأمن أو المساس بالاستقرار في منطقة معينة ، ومثل هذا الموقف يلامس حدود الاستنكار أيضا ومعه يمكن توقع ردود فعل ذات طابع مناهض، مثل عدم التردد في الموافقة على قرارات بفرض عقوبات دولية قد تأخذ أشكالا عقابية أو ردعية وبعضها كما يحدثنا التاريخ السياسي المعاصر كانت ذات طابع انتقامي.
يحدث في إطار المناورات السياسية أن تطلق السلطة أو أحد الأطراف السياسية ما يطلق عليه ” بالونات اختبار” وتتمثل في تسريب أخبار غير مكتملة وبطريقة غير رسمية عبر وسائل إعلام غير حكومية تتعلق بمشروع أو مبادرة سياسية تتضمن شعرة من حقيقة تبرر تسريبها وسط معلومات مضللة ، والهدف منها معرفة رد الفعل السياسي أو الحزبي والنقابي.. والشعبي تجاه ما تضمنته الأخبار، ثم قياس الرأي العام منها والحقيقة أنها حيلة تستبق بها السلطات معرفة رد الفعل تجاه الحدث الحقيقي لو أنه تم إعلانه بأبعاده وجوانبه الكاملة بإطلاق ما يمكن أن يثير الاهتمام حوله ، وفي مثل هذه الحالة يبرز رد الفعل قبل حدوث الفعل الأساسي ،والحقيقة أن مثل هذه الأمور ليست بخافية عن الطبقة السياسية الخبيرة بشؤون الحكم والتي سرعان ما ستدرك بحكم التجربة العملية الطويلة أبعاد الحيلة ، لذلك فإنها بعد عملية تقييم سريعة ستعمد إلى إحدى الطريقتين : إما أن تعلن ترحيبها بما تناهى إلى علمها وتدفع نحو الترويج الإعلامي له وفي هذا تشجيع للسلطة للمضي قدما ودون إبطاء للشروع فيما أرادته، أو أن تناهضه بشكل عنيف يحمل ما يحمل من تجاوزات سيبررها غياب الطابع الرسمي للخبر مما يدخله في تصورها في إطار الإشاعةالصحفية المغرضة التي ترفع عن أصحاب المواقف المناهضة ومعارضي السلطة الحرج أمام السلطات ، وتأخذ المناهضة طابعايوحي على الاعتقاد بتعمد إظهار شيء من الصرامة في الرفض التي تقطع الطريق أمام مروجي هذه الأخبار لعدم العودة إليها مستقبلا .
كثير ما يحدث أن يكون للفاصل الزمني بين حدوث الفعل ورد الفعل تأثيره على العلاقة بين طرفيها ، بمعنى أن قصر المدة الزمنية بينهما أو طولها يمكن قراءته سياسيا على أمرين : فالفورية في رد الفعل يمكن افتراض أنها من قبيل الدراية المسبقة بطبيعة الفعل حيث يكون قد تمت دراسته الجادة والشاملة وتقييم أبعاده بعمق وبالتالي كان الجواب جاهزا سواء بالتأييد الذي لا يستبعد معه وجود اتصالات مسبقة من باب تنسيق المواقف، أو بالرفض الذي قد يخفي مصلحة ستتضرر أو نفع سيعود على الآخر ، كما أن بعض ردود الفعل قد تتمهل في الإعلان عن طبيعتها وذلك عندما تفضل بعض الأطراف السياسية التريث في إبداء موقفها بصراحة لحرج تستشعره تجاه أحد الأطراف، أو لحساسية الموضوع ذاته ، وغالباما يُفقد التريث الأكثر من اللازم في اتخاذ المواقف السياسية الصريحة والشجاعة الكثير من المكانة السياسية للطرف المتريث ويضعف من وزنه الدولي حيث سينظر إليه على أن تردده يستهلك قدرته ليكون طرفا فاعلا وأساسيا في العلاقات السياسية الدولية وبالتالي يفقد شيئا فشيئا من اعتباره .
غالبا ما تأخذ الأفعال السياسية على المستوى الدولي شكل بيانات، ولوائح، وتوجيهات أو نداءات موجهة بين طرفي علاقة أو أكثر، وهي إما أن تكون معلنةكتابيا في صيغة أوامر أو قرارات من أعلى هرم السلطة في بلد ما ، أو من أعلى مجلس في المنظمات العالمية ، ويتم الرد عليها بالإيجاب أو بالسلب، بالموافقة أو الرفض أو بالمعارضة والتحفظ .. عن طريق الأشكال نفسها وبالصيغ المذكورة، وقد تكون وسيلة التبليغ مباشرة بالطرق الدبلوماسية المعروفة ، أي عن طريق القنوات الرسمية والسفارات المعتمدة ، أو في صورة خطابات بين المسؤولين النظراءفي كل دولة، أو في صورة مذكرات وتعميمات ، أي تلك الكتابات الموجهة لجميع الأطراف، فيما يمكن أن تكون أيضا غير مباشرة عن طريق التصريحات الصحفية لوسائل الإعلام المختلفة التي ترمي في الغالب إلى توضيح أولي للمواقف، أو أن تكون معلنة شفهيا عن طريق توجيه خطاب جماهيري للإعلان عن قرار مهم نابع من إرادة الشعب يتم حشد جمع غفير من المواطنين المتحمسين خصيصا لذلك .
إن الفعل مهما كانت طبيعته إذا لم يترك أثرا فلم يحرك ساكنا أ ولم يسكن متحركا سيكون عديم الجدوى ولا طائل منه لأنه لم يحدث تأثيره في مجريات الأحداث سواء بالتعديل أو بالتغيير الكلي أو الجزئي ففقد دوره كمؤثر ، أي أنه لم يحدث رد الفعل الذي يكسب العلاقات الحركية المطلوبة والحيوية المنشودة والتواصل المأمول، وفي المقابل لن يكون بإمكاننا ترقب رد فعل ما تجاه لا شيء، فلا دافع يجعلنا ننتظر نتيجة ما دون أن تتوفر أسباب وقوع الفعل، على أن ثمة ما تكتسبه بعض الأفعال من أهمية بالغة ومع ذلك يحجم البعض عن إبداء أي رد تجاهها ، وهذا في الحقيقة تغييب عمدي أو قصري لدور كان يمكن أن يمنح الصامتين عن التعبير مكانة لائقة فليس دائما في الصمت حكمة أو بلاغة، ولذلك فالفعل ورد الفعل مهما كان مجالهما سياسيا أواقتصاديا ، اجتماعيا او ثقافيا هما الحدثان المعبران عن حقيقة وقوع الاتصال وعن طبيعة حدوث التواصل بين الأفراد والأمم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ