عندما إندلعت الثورة الإيرانية في العام 1979 م تفاجأ العالم بأن رجالات هذه الثورة وأتباعها لا يخافون الموت ويتحدون الموت ، فسبب ذلك رعب وفزع لنظام الشاه الحاكم أنذاك ، هذه الحالة الجديدة غير المعهودة من قبل جعلت العالم أمام ترقب حذر لهذا التحدي الجديد الوافد إليهم من دهاليز هذه الثورة العقائدية الدينية وهي أن الناس في هذه الثورة أخذوا يواجهون الموت دون خوف ، وفعلاً كانت الملايين الزاحفة في إيران من أنصار الثورة تتحدى الموت ولا تهاب بطش الشاه ، فقد كانت الجموع الشعبية المليونية خلال احتجاجاتها ضد نظام الشاه يمسحون وجوههم بدماء الشهداء الذين يسقطون ويتقدمون بكل عزيمة لإسقاط نظام الشاه ، بهذا الإصرار سقط نظام الشاه ، وبعد سقوط نظام الشاه أكدت طلائع البسيج والحرس الثوري الإيراني الخارجة من رحم الثورة والمؤمنة بهذا المبدأ مبدأ عدم الخوف من الموت استعدادها لخوض أقوى التحديات مع العالم الغربي وضد جميع دول العالم التي تعادي الثورة أو التي لا تناصر الثورة ، مبدأ عدم الخوف من الموت طرح نفسه من جديد خلال الحرب العراقية الإيرانية وقد أثبت فعاليته وتأثيره في جبهات القتال ، لكن ماذا حدث بعد عقدين من الزمن ؟حصلت المفاجأت التي تفوق تحدي الموت التي جاءت بها الثورة الإيرانية عندما ظهرت التنظيمات الدينية الإرهابية وهي تصدم العالم بأن رجالات ونساء هذه التنظيمات المتطرفة لا يخافون الموت أيضاً بل زادوا عليه بأنهم يشترون الموت بأنفسهم ويتشوقون للأخرة شوق الحبيب للحبيب ، هذا المبدأ الجديد جعل عدم الخوف من الموت مرحلة بدائية من الماضي لأن شراء الموت الجديد يحمل في طياته رعب أكثر ، لكن حرب غزة وما تلتها من حروب وأحداث دموية أظهرت لنا مدرسة ( موت ) جديدة جعلت من عدم الخوف من الموت وشراء الموت مبادىء قديمة ليست لها قيمة تذكر مقارنة بما حل في الساحة من مبدأ جديد وحديث ابتدعها الإسرائيليون وهو الرقص مع الموت ، فمن لا يخاف الموت يقتلونه بدم بارد على أنغام الموسيقى ونخب الخمور ، ومن يشتري الموت يبيعون له الموت بسعر بخس ويمسحون به الأرض ، يقتلون عشاق الموت وكأنهم في نزهة وكأن القتل بالنسبة لهم رقصة جديدة ، فبدأ عشاق الموت ومتحدي الموت يتقهقرون أمام الراقصون الجدد ، فلم يعد الاستعداد للشهادة يقدم أو يؤخر من وقائع المعركة مهما كان حجم المعركة ومهما كانت مساحة المعركة ولم تعد صناعة الموت تجارة مربحة .. الشيء الوحيد الذي جعل أصحاب المبدأ الجديد ( الرقص مع الموت ) يتقدمون بلا خوف ولا وجل لمواجهة عشاق الموت واغتيالهم بالجملة هي التكنلوجيا الخارقة التي مكنتهم من اصطياد الأعداء حتى لو كانوا على بعد عشرات الأمتار تحت الأرض أو حتى لو كانوا يطيرون في السماء ، نعم العلم والتكنلوجيا وحدها أستطاعت أن تغير المعادلات الكونية التي كانت سائدة لمئات السنين واستطاعت أن تلغي قيمة الترويض النفسي والتعبئة المعنوية وحب الموت والتضحية والجهاد التي كانت هي السلاح الفارق للثورات والتنظيمات العقائدية والحروب القديمة . فأصبحت التكنلوجيا تطارد عشاق الموت وتلبسهم ثوب الموت والذلة بقوة ، فلم يعد أحداً ينصاع للإرهاب الذي لا يخاف الموت ولا لأي فعل أو تصرف من أية جهة تلوح بالإرهاب والتخويف لأن الرد يكون قاسياً بفضل تطور التكنلوجيا .. ومن نتائج قوة تأثير الرقص مع الموت تحول الناس الذين لا يخافون الموت إلى حمامة سلام تبحث عن السلام والأخوة وعن الدبلوماسية وتحولت التنظيمات الإرهابية إلى دعاة المسامحة والحب والتعايش ، بمعنى أدق تلك الجهات التي كانت ترعب الشعوب وتبتزها بحجة أنها لا تبالي للموت وعندها عشق للموت أصبحت هي الأكثر خوفاً من الموت وهي الأكثر ليونة وميوعة خاصة بعد أن عرف قادة تلك الجهات والتنظيمات المحرضة على شراء الموت بأن استهدافهم لم تعد مشكلة بل أصبحت تسلية لمن تسلق ناصية العلم .. التنظيمات الدينية المتطرفة المسلحة كانت تحمل سر نجاحها وسرعة انتشارها وثباتها لعقود من الزمن بالعنف والتخويف على أعتبار أن أعضاءها يتحدون الموت ولا يخافون أحداً وقادرون على قتل من يقف في طريقهم ، هذا الشيء إنتهى زمانه وأسدل عليه الستار مع ظهور مبدأ الرقص مع الموت ، بل أن عصر التنظيمات الدينية المسلحة عملياً سيكون قد انتهى للأبد ، وفعلاً دخلت مرحلة العد العكسي للزوال . وهذه من عجائب الدهر أن ترى الأحوال والأمور تتغير بشكل غير متوقع ، ليعود العلم ويفرض نفسه فوق الجميع ، ويبقى العلماء المبدعون هم وحدهم لهم الحق في سيادة الأرض وهم اللغز المحير الذي سيقضي على جميع الأفكار الشيطانية التي تبيع الإنسان للموت بأسم الدين وأسم المعتقد . ما كان بالأمس مرعباً للناس بحجة تحديه للموت أصبح اليوم يعيش الرعب نفسه ويخشى الموت أشد خشية ! هذا واقع حال مجتمعاتنا التي تفننت في صناعة أنواع الموت وكأن الحياة ليس فيها إلا الموت وشعار الموت واللون الأسود والأفكار الظلامية واللطم والبكاء والعويل ، فهل تستيقظ العقول أم أنها قررت أن تبقى في سبات دائم لا تعرف غير الموت طريقاً للبقاء ؟ أما يكفي ما هلك من شباب ونساء وأطفال ليحصدوا في النهاية الهزائم ؟