من الواضح أن معظم الأنظمة العربية بعد حقبة الاستعمار المباشر، وخصوصا الديكتاتورية منها وصلت إلى الحكم بمباركة ودعم القوى العظمى.
فالطغاة الذين حكموا هذه البلدان تلقوا دعماً غير محدود من القوى الكبرى الممسكة بمفاتيح السياسة العالمية. لقد قامت فلسفة هذه القوى على تمكين أسر بعينها لتكون حاكمة تتوارث الحكم على قاعدة” الولاء مقابل الحماية”.
بمعنى أنها تكون موالية حامية لمصالح القوى الغربية لتحظى بالحماية من الغرب ومنها مشيخات الخليج وممالك في المغرب العربي وبلاد الشام.
والأسلوب الاخر في دعم الطغاة الذي استخدمه الغرب في الدول التي فيها تنوع ديني او طائفي او قومي يقوم على أساس تمكين الأقلية من حكم الأغلبية.
وإذا اعتبرنا ان كلا النظامين (الاسر الحاكمة وتمكين الأقلية) هما استبداد واستئثار بالسلطة، فإن الغرب يبتغي من ذلك تحقيق هدفين رئيسيين الأول، ضمان اعتمادية الأنظمة الاستبدادية على الغرب، لأنها تشعر دائما بالحاجة الى سند يمكّنها من قمع الأغلبية في بلدانها.
والثاني، إبقاء المجتمعات التي تحكمها الأقلية في حالة من القلق المستمر وعدم الاستقرار، ما يجعلها أكثر عرضة للتوجيه والهيمنة الخارجية.
الهيمنة الغربية على الأنظمة السياسية
تاريخياً، يمكننا رصد العديد من الأمثلة التي تُظهر كيف تم تمكين الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي والإسلامي بدعم من القوى الغربية.
من أبرز هذه الأمثلة كانت عملية تنصيب الملك عبد الله الأول في الأردن عام 1946، بدعم بريطاني، وذلك عقب الانسحاب البريطاني من فلسطين، حيث كانت بريطانيا تبحث عمن يحفظ مصالحها في المنطقة في وقت كانت فيه المنطقة العربية مشتعلة بالتحولات السياسية.
ومن الأمثلة الأخرى على هذه الهيمنة نظام صدام حسين في العراق الذي تلقى دعماً أميركياً خفيا اوصله الى السلطة ثم خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات، قدمت الولايات المتحدة دعماً مباشر لصدام حسين في محاولة لإجهاض الثورة الإيرانية.
تدّعي القوى الغربية العظمى أحيانا انها تدعم هذه الأنظمة للمحافظة على الاستقرار السياسي في هذه الدولة او تلك.
لكن الحقيقة عكس ذلك تماما، انها استراتيجية كبرى لتعزيز الهيمنة الغربية على المنطقة من خلال فرض نظام سياسي يعتمد على الأقلية الحاكمة (عائلة أو طائفة) وبذلك يتم تعزيز النفوذ الغربي، سواء كان في السيطرة على الموارد الطبيعية أو في فرض السياسات الاقتصادية التي تخدم المصالح الغربية على حساب الشعوب.
دعم الطغاة وإعادة ترتيب المشهد السياسي
وبعد ان تعاني الشعوب من استبداد طغاتها ونهب خيراتها تضج بالرفض، وتبدأ محاولاتها للتخلص من قبضة الطغاة، حينها تراقب قوى الهيمنة المشهد فتخطط لإعادة ترتيب الأمور حسب مصالحها، فتتخلى عن الطغاة الذين خدموا مصالحها إذا ما وجدت ان قوة رفض الشعوب لهم اقوى، او تدعمهم إذا وجدت ان بإمكان الطغاة قمع الشعوب والاستمرار فترة أطول.
وأبرز مثال على ذلك ما قدمه الغرب من دعم لصدام حسين حاكم العراق لقمع شعبه الذي ثار عليه في 1991 والسكوت عن جرائمه البشعة بحق شعبه من الشيعة والاكراد على الرغم من انها تنافي كل القوانين والأنظمة الدولية الخاصة بحقوق الانسان.
وحين أدركت هذه القوى أن قوة المعارضة الشعبية لصدام تقترب من الوصول اليه بعد تنامي قدراتها المسلحة وتمكنها من استهداف نجله عدي وضرب القصر الجمهوري بالمقذوفات ومحاولة اغتيال عزة الدوري وعدة رموز آخرين من نظامه.
غيرت موقفها منه وسارعت لإسقاطه واحتلال العراق بشكل مباشر وعلني لأنها لم تجد وسيلة أفضل من ذلك للإطاحة به وما زال العراق يعاني من الاحتلال، وتُنهب خيراته ويُصادر قراره السيادي.
أساليب شيطانية
في السنوات الأخيرة، أصبحت قوى الهيمنة الغربية تُركز على استراتيجية “الفوضى الخلاقة” لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي.
هذه الاستراتيجية تعتمد على استثمار الثورات الشعبية والنزاعات الداخلية لتفكيك المجتمعات، وتقويض استقرارها.
من خلال دعم مجموعات مسلحة وخلق انقسامات طائفية وعرقية، تسعى هذه القوى إلى تشكيل أنظمة سياسية تخدم مصالحها، سواء كان ذلك بتأمين الموارد الطبيعية أو ضمان ولاء حكومات المنطقة.
في الحالة السورية، يُعد أبو محمد الجولاني مثالاً واضحًا لهذه الديناميكية. ظهر الجولاني كأحد قادة التنظيمات المسلحة خلال الأزمة السورية، حيث قاد جبهة النصرة التي ارتبطت في بداياتها بتنظيم القاعدة.
وعلى الرغم من تصنيفه على لائحة الإرهاب امريكيا، فإنه تلقى دعما مباشرا من الولايات المتحدة وحلفائها العرب بهدف استخدامه كأداة للضغط على النظام السوري وتحقيق مكاسب استراتيجية في المنطقة، وتم ايصاله الى الحكم في سوريا لاحقا بعد ان تجسدت فيه المصلحة الامريكية.
هكذا ببساطة تعبث دول الهيمنة الغربية بدول الشرق وتزرع عملاءها فيه وتحول المنطقة الى قطع متناثرة تسهل السيطرة عليها وسرقة ثرواتها، بينما الشعوب المستضعفة تواجه مصيرا مظلما بلا قوة ولا إرادة.