عندما ینكسر حاجز الخوف، “روژئاڤا” نموذجًا- د. عبدالباقي مایی

 

الخوف هو من أهم المشاعر الوراثیة الضرورية لحماية الحياة لدی جميع المخلوقات حسب ما نعرفه من العلوم المعاصرة. ولكنه يتحول إلی أداة هدامة عندما یتم استعماله بصورة سيئة. فمن أهم ما یظهر علی الفرد عندما يتعرض للتهدید هو علامات الخوف الذي یۆثر علی الجسم بجميع أعضائه لكی یحضر الفرد للدخول فی معركة ضد هذا التهدید أو الفرار منه لإنقاذ الحیاة من خطر الموت أو فقدان الممتلكات، هذا وفق القانون الثالث من قوانين نيوتن (١٦٤٣ ١٧٢٧)  “لكل فعل رد فعل یساویه فی المقدار و یعاكسه فی الإتجاه”. إذا توالت التهدیدات أو تعددت أو تكررت أو كبرت أو كثرت یصبح الفرد عاجزا عن تجاوز حالة الدفاع لعدم توفر الوقت أو الجو أو الإمكانیات الضرورية لذلك، فیصیب الفرد بالإنهیار أمام التهدید و یمیل إلی الاستسلام إذا عجز عن الدفاع أو الفرار فیرضخ تحت ذلك التهدید ویقبل بالأمر الواقع ویفقد حریته فی إختیار القرار المناسب فیترك أمره ومصيره للجهة التي تهدده بتخویفه والسیطرة علیه. هذا مایصیب الطفل عادة عندما یتعرض للضرب أو الإهانة أو التهدید من أیة جهة كانت سواء كانت هذه الجهة شخصا مجهولا أو معروفا لدیه.

أجل، الخوف يمنعك من الإنجراف فی المخاطر و یحمیك من الإنقراض الجسدي و یدفع عنك البلاء والأذى ما دمت تستعمله بشكله الصحیح و بطبیعته الوقائية و بوظیفته التي تزودت به من أجلها. ولكنك إذا استسلمت للخوف دون أن تكون لديك  إرادة للسیطرة عليه وتحديده بفترة زمنية معينة أو لتحقيق هدف معين أو عبور أزمة أو حالة معينة تصبح أنت عبدا لخوفك وتفقد السیطرة عليه فیسیطر الخوف عليك دون أن تعلم، فتصبح حريتك مقيدة دون إرادتك و تفقد التمتع بحقوقك ولا تحس بعد ذلك بمعني للحياة وإن كنت تعيشها ولا تشعر بالمسۆلیة تجاه نفسك وأهلك وشعبك ووطنك و تصبح شخصا متكلا علی الآخرين لا إختیار لك ولا سعادة فی التمتع بالحياة ولا رغبة فی فهم وهضم مایجری حولك.

و الآن دعنا ننظر إلی شعب بكامله عاش وتربی أبا عن جد تحت الإحتلال والإستعباد والإضطهاد والعیش فی ظروف البؤس والفقر والتهدید المستمر من الطبیعة القاسية حوله المتكونة من جبال وعرة ووديان عمیقة وسهول واسعة وحیوانات مفترسة و عمل شاق و جهل مفروض عليه من قبل سلطات الإحتلال التي تمنعه من ممارسة حقوقه وتمارس معه أنواع التهدید والتخويف والمحاصرة والتجويع والقتل والإبادة الجماعیة والترحيل والتدمير والتغییر الدیموغرافی وغيرها من وسائل  غسل الدماغ و الحروب النفسية وإستغلال ثرواته وإمكانیاته لفرض السيطرة عليها بسياسات الصهر والتفرقة والتمییز العنصری لمنعه من التعلم والتطور لكی لایخرج من سیطرتها، فكيف تتكون شخصية الفرد فی هذا المجتمع یاتری؟!

لازلنا فی كوردستان نربي أطفالنا علی الخائات الثلاث (الخوف والخجل والخطیئة) فكيف لنا أن نتوقع شخصیة الفرد فينا عند البلوغ؟ وهل من الممكن أن نغير فی شخصية الفرد إذا كانت القيم والمبادئ والعقائد والعادات والتقاليد قد تكونت علی هذه المشاعر السلبية المدمرة والتي تمنع تكوين الشخصية السليمة منذ تكوين الطفل فی بطن أمه إلی أن یصل سن البلوغ؟

یتكون حجر الأساس فی بناء شخصية الفرد من الخلايا الأولی لدماغ الجنين فی الأسبوع الثاني من الحمل، وبعد ذلك یستمر دماغ الجنين فی تولید خلايا عصبية جديدة إلی أن یصل عددها فوق الملایین عند الولادة، معظمها كورقة بيضاء تحتاج إلی المعلومات لتكوین شخصية سليمة عند بلوغ سن الرشد إذا مر الطفل بمراحل تطوره الطبیعی تحت ظروف مۆاتیة لذلك تتوفر فيها رعاية صحية و تربية سليمة. والتربية السليمة مبنية علی إشراك الطفل فی معرفة محیطه و فهم معنى الحياة والمشاركة فی تقریر المصير وفق نظریة أنتونوڤسكی (منبع الصحة، ١٩٧٨) و فلسفة أوجلان (مسألة الشخصية، ١٩٨٦).

تلقى أطفال وشباب روژئاڤا منذ ثمانینات القرن الماضي تربية مبنية علی أسس علمية معاصرة منها ما يتعلق بكسر حاجز الخوف لدی الطفل بدلا من إستعمال الخوف كوسيلة لتربيته وتدريبه علی الرضوخ والطاعة فی المجتمع الجماعی السائد فی كوردستان فی ذلك الوقت. فأصبح الطفل یشارك فی النضال دون شعور بالخوف أو الخجل أو الخطيئة. فتكونت شخصية الفرد فی روژئاڤا علی أسس الجرأة فی النضال من أجل الحرية حسب العمر والجنس والموقع دون تفرقة عنصرية أو جنسیة أو إجتماعية. وأصبح الفرد بذلك يشعر بطعم الحياة من منابعه الإصلیة “الأنثى، الحياة، الحریة”، ویعتبر “المقاومة هی الحیاة”.

بكسر حاجز الخوف أصبح الفرد فی روژئاڤا غیر آبه بالمخاوف فیجازف بحياته عندما يجتمع من جميع أجزاء البلاد لیواجه بالرقص والغناء نیران المدافع والطائرات التركية وهجوم الفصائل المدعومة من قبل الجیش التركي علی مدن وأرياف روژئاڤا، لذلك لا يمكن قهر المقاومة فی روژئاڤا بإستعمال القوة والتخویف والتهدید، وصدق الشاعر التونسي أبو القاسم الشابی ( ١٩٠٩ – ١٩٣٤) عندما قال:

إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ

فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ

ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي

ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ

١٤\١\٢٠٢٥

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *