هل الزمن يتوقف ؟ أكيد لا ، لأن ذلك مخالف لقوانين الطبيعة ، فكل شيء ممكن أن يتوقف إلا الزمن ، لكن ما أستوقفني هو أن ألتقي بشخص فارقته أكثر من ثلاثين عاماً فوجدته هو نفس ذلك الإنسان الذي عرفته قديماً وكأن الزمن كان متوقفاً عنده ، وجدته هو نفسه لم يتغير من حيث التفكير البليد والسلوك غير المتزن والتصرف الطفولي ماعدا الشكل وقوام الجسد فقد تغير كثيراً ، فهذه الحالة التي شاهدتها لم تصدمني رغم إنها حالة غريبة حقاً ، فمن الممكن أن يتوقف الزمن عند من يتوقف عقله عن النمو أو يتوقف تفكيره عن التغيير ، لكن الغرابة أن يعود الزمن إلى الوراء بدل أن يتقدم إلى الأمام وياليته قد توقف فقط ، فهذه قمة المفاجأت وأعجب العجائب ، كيف يحدث ذلك ؟ حدث ذلك مع مجتمع كبير في دولة كبيرة ، عاد بهم الزمن إلى الوراء بشكل تراجعي من ناحية البناء الثقافي والبناء الأخلاقي والتعليم والصحة والعادات والخدمات وحتى التفكير أصبح بدائي جداً ، هذا بالضبط ما حصل بمجتمعنا بنسبة غير طبيعية ، عداد الزمن عاد إلى الوراء بطريقة إنسيابية سلسة ويكاد المرء لا يميز بينهم وبين الأقوام البدائيين الذين نقرأ عنهم قبل التمدن ، مجتمع بكامله عاد إلى الماضي وهو تحت التخدير ، طبعاً ذلك لم يحدث في ليلة وضحاها وإنما هناك تسلسل تدريجي مبرمج تكفلت برعايته ايدلوجية تعمل عكس الزمن ، علينا أن لا نستغرب من وجود أيدولوجيات تقف عثرة في طريق الزمن وتعمل عكس الزمن ، غالبية الايدلوجيات المنتشرة في مجتمعات الدول النامية هي أيدولوجيات لا تتقبل حركة الزمن ، فهي أيدولوجيات تستند على العنف والدجل والخداع ، تعتاش من وراءها مجاميع من الفئات المنزوعة الرحمة المجرمة المتخلفة وهي ليست بالقليلة تعتاش منذ مئات السنين ، يبثون أيدولوجيات مصممة لمنع دوران عجلة الحياة ، ولها مفكريها و وعاظها ومثقفيها و وجهاءها ومطبليها ، فهي ليست أيدولوجيات ضعيفة بل راسخة وعنيدة ولها قدرة إقناع فائقة ، و استطيع القول بأن زوالها شبه مستحيل ، مما يثبت لنا بأن الإنسان الذي تستحوذ على عقله الأفكار الميتة يصبح في عداد الموتى . عقل الإنسان المتحرر هو الذي تحركه الأفكار الإيجابية ، ومع هذا التوقف الزماني يبرز دور وأهمية الايدلوجية الصحيحة في حياة المجتمعات والشعوب ، فلا يوجد شعب أو أمة تغيرت أحوالها نحو العلا إلا وتجد الأفكار التي تقود عقول تلك الأمة هي أفكار بناءة صحيحة غير ملوثة تواكب عجلة الزمن ،،، أحياناً تكون الأيدولوجيا كالوباء في أضرارها تنتقل من دولة لأخرى حالها حال الأعاصير تدمر كل ما يقف امامها ، فهي أسوأ من أي سلاح فتاك ، السلاح الايدلوجي هو الكفيل بإبادة العقول فقط ، ، السلاح الايدلوجي المدمر لا يأتي بمفرده على عقول الناس ، فهو يأتي تارة تحت عباءة الدين أو القومية وتارة تحت عباءة الديمقراطية وتارة تحت عباءة ثورات التغيير والعواطف الجياشة ، وبعد دخولها عقول الناس تنزع القناع الذي أتت به وتظهر وجهها الحقيقي ، فرجالات تلك الأيدولوجيا عندهم اقوى أنواع الخدع البصرية والعقلية ، بالضبط مثلما فعل صانع حصان طرواده عندما عجز عن اقتحام قلاع العدو فعمد إلى صناعة حصان خشبي كبير اختبأ به عشرات المقاتلين لتكون خدعة تدمر قلاع العدو من الداخل . لمن لا يعرف سبب الانحطاط والتخلف وعودة الزمن إلى الوراء في مجتمعاتنا فليعرفه الأن بدون رتوش وتمام الوضوح عندما يبصر الواقع ويخلص إلى أننا مجتمعات تتعرض لعملية غسيل دماغ بشكل دائم ومستمر منذ مئات السنين ، فعندما نسخر من عبدة البقر أو عبدة الفأر أو عبدة النار فكلها أيدولوجيات تصب بنفس الهدف وهو اعطاء القدسية لرجل الدين الذي يقف وراء الدين ، ونحن نفعل الشيء ذاته ، فما يصيبنا من مصائب و ويلات فهي نتيجة طبيعية للغفلة ، وليعرف الناس بأن الدنيا لا ترحم المغفل ولا تعطف عليه وانما تزيد من مرارة العقاب عليه ، فعندما يجد نفسه يداس بالأقدام ويرجوا رحمة رب العالمين ، فلا رحمة تنزل عليه من السماء ولا رحمة تأتيه من الأرض لأنه هو لم يرحم نفسه ولم يرحم عقله ولم يرحم اهله ورضي لهم اجمعين الذلة والمسكنة عندما تقبل الأفكار الرديئة . فكلما ترسخت هذه الايدلوجية المتخلفة الرديئة في عقول الناس كلما تسارع الزمن في العودة إلى الوراء وقد تصل الحالة إلى مرحلة الانحدار السريع وهي مرحلة اليأس المطلق . لو رجعنا إلى تأريخ تطور الإنسان سنلاحظ شيء غريب هو أن هذا الكائن عاش ملايين السنين على الأرض ولم يتطور إلا بنسب ضئيلة جداً ليست لها قيمة فعلية قياساً للمدة التي عاشها على الأرض ولكن خلال القرون الثلاثة الأخيرة وبعد ظهور أيدولوجيات الثقافة الحديثة ( الايدلوجيات الليبرالية ) وظهور الدولة العلمانية فقد تغيرت حياة الإنسان رأس على عقب بشكل مذهل لا يكاد يصدق فتطور هذا الكائن بنسبة مائة ضعف قياساً لملايين السنين التي قضاها يدور بنفس الدائرة حول نفسه ولكن خلال ثلاثة قرون ظهرت المعجزات وتحرر الإنسان من نفسه القديمة العليلة الأمارة بالعبودية ، فهذا يدل على أن جميع الايدلوجيات التي سبقت القرون الثلاثة الأخيرة هي أيدولوجيات غير عملية وغير مثمرة ولم تكن لها عطاء ملموس في تحسين حياة الإنسان ، فما بالكم من يحاول إعادتها لدورة الحياة وكأنه أعمى عما يدور حوله من حركة الزمن . الحاجة إلى تغيير الايدلوجيات هي الحاجة إلى احترام الزمن ، فعملية تجميد الزمن جنون ومرض نفسي لا يصح قبوله ، وفي منطقتنا ستزيد التكلفة كي نتماشى مع الزمن لتصل مستوى بحار من الدم لأن القضية بكل بساطة الوقوف بوجه حركة الزمن بعقول متحجرة ستولد تلك الخسائر حتى تحين اللحظة التي يستفيق الناس من سكرتهم بأن الزمن متوقف عندهم وهم لا يشعرون .