المقاومة السلمية فی “روژئاڤا”- د. عبدالباقي مایی

 

فی شمال شرق سوريا تجري منذ تأسيس الإدارة الذاتية في هذه المنطقة سنة ٢٠١١ حالة من المقاومة السلمية  المستديمة ضد محاولات إبادتها من قبل سلطات الاحتلال التركي و القوی الشوفینیة فی المنطقة وأصحاب المبادئ الرجعية من دینیة و سیاسیة التی عفی علیها الزمن (مایی، ٢٠٢١ ).

هذه المقاومة أنشأت للمرة الأولی فی التأريخ تعددية جماهیریة متكونة من جميع القوميات والأديان والطوائف المتعايشة فی نطاق حكمها. والجديد فی هذه المقاومة أيضا هو أنها تتبع القواعد العلمية أكثر من التزامها بمبادئ وأساليب الكفاح المسلح الكلاسیكی المتعارف عليها فی الحركات التحررية حینذاك. فهی تعتمد علی نظريات علمية معاصرة من أمثال الصحة النفسية (أنتونوڤسكی، ١٩٧٨) و تكوین الشخصية السليمة (أوجلان، ١٩٨٦ ). فالمقاومة فی روژئاڤا هی وسيلة دفاع عن النفس لیس فقط بالعنف والكفاح المسلح كما هو معروف فی تأريخ المنطقة بل بالحوار البناء والإعتماد علی النفس فی الإدارة والتمويل والدفاع إذا تعرض لأی عدوان. فهی لاتتخذ الإنفصال هدفا للمقاومة بل تعتمد علی الإستقلال فی جميع أمورها الإدارية والإقتصادیة والسیاسیة والعسكرية…الخ. فهنالك فرق بین الإنفصال والإستقلال قد يكون خافيا علی الكثیرین من أتباع السياسة الكلاسیكیة فی المنطقة. وهذه الوسيلة السلمية فی المقاومة تجعل الأعداء فی حیرة من أمرهم حول كیفیة السيطرة عليها أو إستغلالها. أما الأصدقاء فيجدون مصالحهم فی معاملة هذه المقاومة السلمية دون خسارة أو عناء. لذلك أصبحت هذه الإدارة محل إعجاب و تقارب من قبل جهات عديدة فی الداخل والخارج، خاصة المتطورة و الواعیة منها. كذلك وجدت مختلف شرائح المجتمع فی هذا النظام تجاوبا للحوار البناء فی حل الخلافات والمشاكل فيما بينها. لذلك وجدت الشرائح المختلفة داخل المجتمع، وكذلك الجهات الخارجية التي لها مصالح مشتركة فی هذه المنطقة، تجاوبا سلميا وتفاهما مفيدا فی هذه المقاومة السلمية البناءة بإستثناء سلطات الاحتلال الغاصب والأنظمة المستبدة فی المنطقة والشخصيات الضعيفة التي لم تستطع إستیعاب مبادئ وقيم هذا النموذج الجديد فی وسائل إدارتها لشۆنها الداخلیة أو دفاعها السلمي عن حقوقها المشروعة فی الحرية والحیاة.

تتسم الإدارة الذاتیة فی “روژئاڤا” بالمساوات الجنسیة والعرقية والشخصية فی الحقوق والواجبات بین أبنائها مع إشراك العنصر النسوي فی المراكز الحیویة والمناصب القیادیة من سیاسیة وإداریة وعسكریة. بذلك تكون نظام إداری منقطع النظير ما أدی إلی جذب الانتباه فی الداخل والخارج. و إستطاع هذا النظام الجديد جلب الشباب الواعي فی الداخل والخارج للإشتراك فی جميع مرافق الإدارة الذاتية، و أصبح النظام الجديد يستقطب الدعم المادي والمعنوي من جهات عدیدة وذلك لكونها رأت فی هذا النموذج الجدید أسلوبا ناجحا فی الإدارة والتضحیة والفداء یمكن تطبيقه بصورة سلمية فی بناء الشرق الأوسط الجديد (مایی، ٢٠١٨ )

عندما سقط نظام حزب البعث العربي الإشتراكی فی سوريا نتيجة لحرب إسرائیل علی غزة، كان نظام الادراة الذاتیة فی “روژئاڤا” قد إمتد إلی مناطق فی غرب الفرات أيضا” لتضم دیرالزور و طبقة و منبج، بالإضافة إلی منطقة الشهباء و معسكرات الشيخ مقصود والأشرفیة فی شمال مدینة حلب التي أحتوت معظم المهاجرين من مدينة “عفرین” بعد إحتلالها من قبل القوات التركية فی سنة ٢٠١٨، و ذلك  بعد مقاومة عنيفة سمیت ب”مقاومة العصر” إستغرقت ٥٨ یوما. فظل المهاجرون من عفرین یعیشون فی المآسي والحرمان تحت حكم نظام حزب البعث العربي السوري آنذاك، وأجبروا علی ممارسة مقاومة سلمية ضد سلطات الدولتین التركية والسو‌ریة معا”.

استولت هيئة تحرير الشام “هتش” علی الحكم فی دمشق بعد سقوط نظام حزب البعث العربي الإشتراكی فی سوريا وهروب رئیس النظام إلی روسيا فی ٨\١٢\٢٠٢٤ . أصبح رئيس هذا التنظيم “محمد الجولاني” رئيسا للإدارة الجديدة فی دمشق فأبدع بتغییر إسمه وملبسه وأسلوبه لیتكیف مع الظروف الراهنة و عین وزراء لحكومة إنتقالیة لمدة ٣ أشهر، و دعا جمع السوریین لتكوین إدارة جديدة وإیجاد دستور شامل یتم تألیفه من قبل جميع السوریین. فصارت الإدارة الذاتیة فی “روژئاڤا” محل أنظار الجميع فی داخل سوريا و خارجها واختلفت الآراء فی كیفیة التعامل معها. وراحت القوی الشوفینیة والعنصرية والرجعیة ترنو إلی نموذج “روژئاڤا” بعین الحسد والحقد والكراهیة مما أجبرت الإدارة الذاتیة علی الإستمرار فی المقاومة السلمية والإتصال بجميع الأطراف المتنازعة فی سوريا لشرح مشروعها الدیموقراطی ومحاولة الإتفاق معهم بالحوار البناء للمحافظة علی كیانها و مكتسباتها، ولازالت هذه المقاومة السلمية مستمرة فی الحوار البناء مع جميع الأطراف الداخلية والخارجية للتفاهم والتعاون فی كافة المجالات. ولكن العائق الرئیسی. أمام هذه المساعي والمحاولات السلمية هو الإحتلال التركي الذي یستمر بالقصف الجوي للمناطق التابعة للإدارة الذاتية و الهجوم البری بفصائل موالية له فی داخل سوريا الأمر الذي أجبر الإدارة الذاتیة علی الإحتفاظ بسلاحه ضمن تنظیمه العسكری قوات سوریا الدیموقراطیة “قسد” الذی یشارك مع المقاومة السلمية التي تقوم بها شعوب شمال شرق سوريا فی “روژئاڤا” لصد محاولات الإبادة الجماعیة التي یمارسها النظام التركي الفاشی ضد الكورد و كوردستان فی كل مكان.

لازالت قوات “قسد” تدافع عن سد تشرین علی نهر الفرات الذي تريد تركيا تدميره كوسيلة استراتیجیة ضد البنية التحتیة للمناطق التي تقع علی هذا النهر ضمن حدود سوريا والعراق. رغم محدودية إمكاناتها العسكرية كتنظيم عسكري غیر نظامی، تستمر “قسد” فی الاحتفاظ بمواقعها ضد قوات الاحتلال التركي. فمن أین تستمد قسد قوتها وعزیمتها؟

لو نظرنا إلی مایحدث فی شمال شرق سوريا نجد قوافل الأهالي المدنیین العزل يتناوبون علی القيام بفعاليات تضامنية علی سد تشرین الذي بدلت هذه الجماهير تسميته إلی “سد الشهداء”. یتنافس الشباب والعجزة نساءا” مع الرجال، علی الاشتباك فی الأغاني والزغاريد والدبكات علی سد الشهداء دون إكتراث بخوف أو خطيئة أو خجل. فیستلم القادم من النازل وكأنهم فی فرح أو نزهة أو زفاف. ترمي الطائرات التركية قنابلها عليهم فیسقط بينهم جرحی و شهداء والمجتمعون يلتفون عليهم بأغانيهم وأناشیدهم وهتافاتهم لكی یرفعوا معنوایاتهم للاستمرار فی النضال بأسلوب جديد فی المقاومة السلمية وهم فی تماس مع كافة شرائح المجتمع التي تدعمهم فی هذا الأسلوب الجديد من النضال لایستثنی منهم الفنانون و الجامعات:

https://www.facebook.com/1411698562/videos/1039586747935436/.

٢٤\١\٢٠٢٥