نهاية الأشتراكية في الشرق الأوسط وسقوط الصنم الأخير – قبات شيخ نواف

 

 

ان أنتصار الثورة السورية هو أنتصار تاريخي, فقد أنهت الثورة أحدى أعتى فترات الحكم السياسي أجراما وطغيانا شهدتها سوريا في تاريخها المعاصر والحالي. لقد نجحت الثورة بفضل عدة عوامل داخلية وخارجية, إلا أن أهمها كان صبر وتضحيات الشعب السوري بمختلف مكوناته. يفترض أن يفرح جميع السوريين لهذا الأنتصار والأنجاز الكبير الذي أزاح صخرة كبيرة كانت جاثمة على صدور السوريين منذ أكثر من نصف قرن. لقد قضت الثورة السورية على آخر معاقل الأشتراكية في الشرق الأوسط (مع العلم بأن الحكم الأسدي أبتعد كثيرا عن مبادئ الأشتراكية العلمية العالمية من مساواة وعدالة اجتماعية وتأمين مستلزمات الحياة الضرورية للشعب). لقد وصل قطار مايسمى “بالربيع العربي” الى محطته الأخيرة, منهية رحلة الدماء والدموع على آراضي الشام الشريف ومن داخل أقبية التعذيب الوحشية في صيدنايا. ذلك القطار الذي طال أنتظار قدومه للسوريين جميعا ليبدأو رحلة جديدة في وطن يعمه السلام والأمن والأستقرار والقانون والعدالة الأجتماعية. أيضا هذه الثورة أسقطت آخر أصنام الحزب الواحد وعبادة الذات.

إلا أن هذا الأنتصار الكبير حركت عجلات الثورة المضادة من قبل بعض المستفيدين من الحكم البائد, الذين وجدوا أنفسهم فجأة مدحورين خاسئين والبعض منهم تحول للتكويع, مكوعين – المكوعيين الجدد. وكذلك من قبل أطراف أخرى تقول أنها تخاف على العلمانية (حتى العلمانية إذا ما ذهبت للتطرف فأنها تفتح الباب لنشر الألحاد في المجتمع والعياذ بالله), ولديها هواجس لكل ما هو ديني. كلنا نعرف أن جبهة تحرير الشام تعترف بأنها ولدت من أبويين أصوليين متشددين, داعش وجبهة النصرة. إلا أن قائدها أحمد الشرع يصرح بأن تنظيمه دخل مرحلة جديدة من المراجعة الفكرية والأنتقال من عقل الثورة والهيجان إلى عقل الدولة والمؤسسات, والموضوع ليس متعلقا فقط بربطة العنق وجاكيت السبورت. لسان حال الرجل يقول بأن أحمد الشرع يتخلص الآن وبسرعة من أبو محمد الجولاني, وأعتقد بأنه يجب أعطائه الفرصة والثقة به حتى يثبت العكس. وكذلك عدم مطالبته باشياء كبيرة وكثيرة في فترة قصيرة من: دستور وعلمانية وفيدرالية وليبرالية وديمقراطية ومازوت وكهرباء ورواتب عالية والنهوض بالبلد وخاصة أنه لم يرث سويسرا بل بلد معظمه مدمر ووصل الشام للتو.. عادة هكذا أمور تأخذ سنين حتى في الدول المتقدمة (أنظر مثلا إلى إسبانيا, بعد الخلاص من فترة حكم فرانكو الديكتاتوري أحتاجت الى سنوات طويلة وتلقت دعم مباشر من الاتحاد الأوروبي حتى تخلت عن ارث فرانكو وجعل إسبانيا أن تلحق بالركب الأوروبي), وبالتالي, حياة البشر كلها تحتمل مراجعات ونقد ذاتي. فالإنسان يتحول من حزب لآخر, ومن أيديولوجية لآخرى حسب نضوجه الفكري ومتغيرات المرحلة. خذ على سبيل المثال لا الحصر, الرئيس العراقي فؤاد معصوم, فهو يحمل دكتوراه في الدراسات الإسلامية من الأزهر ولكن بعد قدومه للعراق, التحق بالحزب الشيوعي العراقي (وهو بذلك قام بقفزة فكرية أولومبية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار). وكذلك المفكر المصري محمد عمارة, حيث تحول من الماركسية إلى داعية إسلامي. وأحمد الشرع تبرئ من داعش والنصرة ونراه صادقا فيما يقوله ويصرح به حتى الآن.

أن الشعب الذي صبر أكثر من نصف قرن, يستطيع أن يصبر بضعة شهور لمرحلة أنتقالية مؤقتة وخاصة أن الأدارة الحالية هي تحت المراقبة المحلية والأقليمية والدولية. الجميع يريد مساعدة الشعب السوري لبناء سورية وطنية حديثة ذات دستور حضاري تحترم وتحمي شعبها بمختلف أطيافه ومكوناته وتعاملهم بالحق والعدالة بعيدا عن التجاذبات وخطاب الكراهية. وزيارة الوفود الدبلوماسية الرسمية العربية والأوروبية إلى دمشق تكاد لا تتوقف, أضف إلى ذلك مشاركة سوريا في منتدى دافوس. وهذا دليل على نشاط وتعامل الإدارة الحالية داخليا وخارجيا حيث غدت محط أهتمام ومتابعة وتقييم الدول الكبرى. أجمالا, أحمد الشرع نال شرف تحرير سورية من طاغية الشام, وأن كان النظام آيلا للسقوط في أي لحظة بس الفساد والظلم الذي كان يمارسه على شعبه, إلا أن هذا السقوط كان يحتاج إلى اهتزاز ورجة قوية. أن تاريخ  هيئة تحريرالشام يذكرني بتاريخ الأمويين في التاريخ الإسلامي, حيث يختفون من مكان ليظهروا بقوة في مكان آخر (ملاحقة وأندثار في الشرق مع ظهور وتوسع في الغرب). فهيئة تحرير الشام كانت قبل سنتين أو أكثر  شبه غائبة عن المشهد العسكري السوري ولكنها بدأت بمهاجمة النظام في حلب, المدينة الثانية في سوريا. وبالتالي أذا أخذنا الموضوع من وجهة نظر تاريخية, هنا يأتي دور المؤرخ الحاذق لتفسير هكذا ظواهر تاريخية تبدو واضحة ظاهريا ولكنها معقدة اذا ما تم التعمق في دراستها.

الصف الكردي..وحدة أم توحيد

أن التحول الثوري والأنتصار الكبير الذي حدث في سوريا في 8-12-2024 يضع الكرد في سوريا أمام تحد كبير لتكوين موقف وطني دستوري. لقد تأخر الكرد كثيرا وتماطلوا أكثر في فتح باب الحوار مع دمشق. والإنسان هنا يتسأل لماذا يحتاجون كل هذا الوقت مادام الجميع يقول بأنهم يريدون الخير للشعب الكردي. في بداية أحداث الثورة السورية تماطل قسم من الكرد في الذهاب إلى دمشق واسرع القسم الآخر. الآن و بعد أنتصار الثورة حدث العكس تماما. لابد من الأشارة هنا إلى أن مجموعة الأحزاب التي تنتمي لفلك نهج البارزاني الخالد, تمثل اليمين المحافظ السياسي الكردي, في حين أن الأحزاب التي تنتمي الى فلك العمال الكردستاني تمثل اليسار الأشتراكي الماركسي. مع العلم بأن اليمين واليسار قد تغيروا كثير عبر الزمن, و لم تعد هذا الألوان السياسية خالصة كما كانت قبل قرن من الزمن مثلا. ولهذا نلاحظ ظهور أحزاب يمين الوسط, أحزاب اشتراكية-ديمقراطية كحال المجموعة الأسكندنافية وهكذا. الحزبين لهم أجندة وطنية يعملون عليها وبالتالي الإنسان الكردي العادي يتسأل لماذا كل هذه الخلافات؟ على أيه حال, وكما هو معروف في الهندسة, هناك خطان مستقيمان  متوازيان لا يلتقيان أبدا, و أذا ألتقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله. الشارع الكردي يطالب بالوحدة وليس بالتوحيد, فكل حزب ينتمي إلى أيديولوجية حزبية فكرية معينة وليس ضروريا أو حتى مطلوبا التوحيد الحزبي بل تقوية الوحدة الوطنية فقط. أنظر مثلا إلى الولايات المتحدة الأمريكية, هناك حزبين رئيسيين يتحكمون في الحياة السياسية, وأن كانت الفروقات بينهما لا تتجواز الفروقات بين البيبسي و الكوكاكولا إلا أنهما يعملان مليا من أجل مصلحة بلدهما.

يجب على الكرد أن يمتثلوا الى الواقعية السياسية المنطقية وطلب ما هو ممكن مرحليا, فالسياسة هي بأختصار شديد فن الممكن. فيجب الأخذ بالأعتبار الظروف المحلية والأقليمية والدولية ودراستها بشكل واقعي و مفصل. وعدم تصديق تصريحات رنانة قادمة من الغرب, أنظر مثلا إلى فرنسا التي لطالما تتشدق بالديمقراطية و الأخوة…بعد كلما قامت به من تاريخ أستعماري سلبي في أفريقيا, حتى الآن هي عاجزة عن تقديم أعتذار للشعوب الأفريقية فكيف بها أن  تدعم بناء أوطان في الخارج, وكذلك ترفض أستقلال أقليم الباسك الفرنسي وهكذا.. أو حتى الكثير من الكرد يرفعون سقف مطالبهم عاليا وهم تركوا وهربوا من وطنهم لأبسط الأسباب, وليس من أجل الظلم و الأظطهاد كما يدعون, فهم كانوا في تركيا ولبنان وكردستان العراق والأردن وفي طريقهم وصلوا الى اليونان وبلغاريا (تعتبران بلدان أوروبية آمنة), كان يمكنهم البقاء فيها, إلا أنهم فضلوا دول أوروبية معينة للحصول على مذلة راتب الجوب سنتر والأستفادة والأستماتة من أجل العمل الأسود(مال محرم شرعا وقانونا) وتزوير وثائق وأعطاء معلومات خاطئة و كاذبة عن أوضاعهم الحقيقية خلال مقابلات اللجوء, وطرح نظريات عن الوطن على الفيس بوك, أنا في حياتي ولاحتى في المنام, لم أجد وطنا تم بنائه عن طريق الأونلاين. هؤلاء لا يجب الأستماع لهم كثيرا. يجب الأحتكام إلى الواقعية السياسية و الأبتعاد عن المثالية السياسية, فجمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي وأطروحات مورو وروسو هي قراءات فلسفية نظرية أدبية فقط لاغير. فلا أحد منهم وضع أسس عملية تطبيقية تنفيذية محكمة قابلة للحياة  لنظرياتهم.

أن الفيدرالية إذا ماتمت على أسس عرقية كما هو الحالة السورية, سيؤدي إلى التقسيم حتما مع مايرافقه من نزاعات وصراعات, وخاصة أنه لايوجد منطقة عرقية خالصة فالعرب و الكرد و السريان شكلوا نسيج المجتمع السوري وهم ليسوا أقليات كما يحلو للبعض تسميتهم بل أجزاء و أعضاء رئيسية من الجسد السوري. أنظر مثلا إلى محافظة اللاذقية, التي تبدو من أول وهلة بأنهم من المكون العلوي, ولكن في حقيقة الأمر, وحسب الإحصاءات الحديثة, 50%  أو أكثر من سكان محافظة اللاذقية ليسوا من المكون العلوي وهكذا..والكرد قدموا اسهامات وطنية كبيرة في سوريا من إبراهيم هنانو, حسني الزعيم إلى يوسف العظمة.. وأيضا لا ننسى قبر صلاح الدين الأيوبي و قبور العائلة البدرخانية(إمارة بوطان) في دمشق.  وبالتالي, قد تكون الفيدرالية ناجحة في دول مثل الإمارات العربية المتحدة, سويسرا أو الولايات المتحدة, وهذا لأنها دول لديها سياقات تاريخية وفكرية وثقافية مختلفة, والأهم من ذلك أن الفيدرالية في هذه الدول لا تستند إلى أسس عرقية بحتة, أنما سياسية. وبالتالي الموضوع ليس مجرد نسخ لصق, بل أدق و أصعب و أعمق من ذلك بكثير.

ختاما, نتطلع إلى سوريا حضارية حديثة دستورية قائمة على العدل و القانون و أحترام شعبها وثقافتها ولغاتها وهوياتها والمحافظة على مكوناتها الوطنية الطبيعية بدون مكابس تعذيب و ظلم و أظطهاد. سوريا جنة والوطن سوري. ودمتم سالمين.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *