درست الدولة العميقة العصرية جميع جوانب الصراع، وكم سيكون رهيبا في مجال التكنلوجيا، وكسباق مع الزمن دفعت بالإدارة الأمريكية الجديدة، ومن أول يوم، على ترسيخ الاستراتيجية المواكبة للتنافس التكنولوجي المتصاعد، كمنهجية للتطوير إلى جانب زيادة الأرباح، والتي بدونها ستفقد أمريكا مكانتها كإمبراطورية عالمية، لذلك كان مشروعها العملاق في مقدمة الوثائق التي وقع عليها ترامب، وبحضور ممثليها، الذين وضعوا خطة استثمار 500 مليار دولار لتطوير الذكاء الاصطناعي في الوقت الذي كان اعلى سقف لأحد مشاريع الأوروبيين في هذا المجال بحدود واحد ونصف مليار يورو، كما وحثت شركات مماثلة إدارة ترامب بحظر تصدير الرقائق الإلكترونية للعالم، التي صرفت عليها المليارات بعد جائحة كورونا والإشكاليات التي ظهرت في قطاع السيارات والإلكترونيات على خلفية نقصها والتي كانت تنتجها الدول الأسيوية، كما وتم إطلاق مشروع (ستارجيت) من بداية دخوله المكتب البيضاوي، والذي أستثمر فيه كبداية 100 مليار دولار، هذه وغيرها من المشاريع العملاقة ستدفع بالشركات الكبرى إلى تنافس غير مسبوق عالميا، ستؤدي على الأرجح إلى نقل البشرية إلى عوالم جديدة.
توسع دور هذه الشركات وزيادة تحكمها في الإدارة الجديدة كجزء أساسي من الدولة العميقة العصرية، ستكون دعما لنقل الحضارة الإنسانية والتطور البشري إلى مستويات أعلى، وربما رفاهيته، بعكس الدولة العميقة العسكرية التقليدية، التي كانت تعتمد على البنتاغون وتطوير السلاح، وخلقت الكوارث لتحقيق مصالحها عن طريق الصراعات والحروب.
مع انتقال البشرية إلى هذه المرحلة الجديدة، تبدو المنافسة بين الشركات الكبرى في أوروبا والصين وحتى روسيا، بعدما تقف الحرب الأوكرانية، فرصة لتقديم الأفضل للبشرية من حيث التطور الحضاري، بدلًا من التركيز على الصراع الدموي لتطوير الأسلحة. رغم ذلك، تبقى المنافسة على الأرباح عنصرًا رئيسيًا، لكن من المرجح أن تكون خاليا من التدمير أو على الأقل أكثر نفعًا للإنسانية، ولتبين الدولة العميقة العسكرية دورها في دعم الاقتصاد نشرت خبرا بعد يومين من بدء إدارة ترامب أعمالها، ويوم بعد الإعلان عن الصفقة العملاقة في تطوير الذكاء الصناعي، على أنها أدخلت 318 مليار دولار في خزانة الدولة الأمريكية.
الاستراتيجية الجديدة بدأت تتوضح في إدارة ترامب الأولى، لكنها برزت إلى الواقع العملي بشكل جلي من اليوم الأول لولايته الثانية، مما يبين على أن الولايات المتحدة والعالم أصبحوا أمام حقبة جديدة من التحولات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية.
في الواقع، الدولة العميقة العصرية لم تظهر فجأة بل مرت بمرحلة صراع طويل، ويمكن القول أنها ولدت من على عتبات الصراع العالمي العسكري، وخلفيات حاجة الولايات المتحدة الأمريكية لاحتضان التنافس، أو البقاء كقطب وحيد مهيمن على العالم بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، وصعود الصين واليابان وأوروبا المتسارع، وهو ما أدى إلى انقسام الدولة العميقة العسكرية، طرف أستمرت على الإستراتيجية الكلاسيكية، والطرف الأخر عملت على دعم الطفرات التكنولوجية العصرية، أي الإنترنيت وتوابعها، والشركات المنتجة لها، وساهمت بشكل واسع في تطوير السلاح، أستمر الصراع بين التيارين اكثر من عقدين من الزمن، وتحديدًا منذ حقبة بيل كلينتون ونائبه آل غور، عندما دعم تطوير الإنترنت بين المجتمع الأمريكي. القسم الأول يمثل التيار التقليدي، الذي لا يزال يفضل الهيمنة على العالم من خلال القوة العسكرية، وقد ظهر ذلك بوضوح خلال محاولة ترامب في ولايته الأولى سحب القوات الأمريكية من مناطق جغرافية متعددة، حيث واجه معارضة شديدة من هذه الدولة العميقة العسكرية. أما القسم الثاني، وهو التيار الحديث، الذي تحول ليتبنى الهيمنة عبر القوة الاقتصادية والتقدم التكنولوجي.
هذا التيار كان المحرك وراء دعم ترامب لثلاث من أكبر شركات التكنولوجيا لتطوير الذكاء الاصطناعي، في مشروع قيل في مؤتمر صحفي إنه “سيغير وجه البشرية” فإلى جانب ذلك، حصل على 600 مليار دولار من السعودية ستستثمر معظمه في هذا المجال. مع الإشارة إلى أن شركات تكنولوجية عملاقة أخرى ستنضم لاحقًا وتساهم بمبالغ هائلة.
على أثر هذه التطورات المتسارعة في عالم التكنولوجيا، أمريكا تواجه نوعين من الصراعات: الأول بين التيارين داخل الدولة العميقة نفسها، القديم والحديث. ترامب، بصفته ممثل المرحلة الحديثة، حاول في ولايته الأولى تقليص الاعتماد على العسكرية، ما أدى إلى تغييرات متكررة في وزارة الدفاع، حيث أُقيل أربعة وزراء دفاع خلال أربع سنوات. في المقابل، عمل على توسيع نفوذ الدولة العميقة الحديثة من خلال دعم هائل للشركات التكنولوجية، وتطوير الذكاء الاصطناعي، والإنترنت الفضائي، وتعزيز نفوذ وسائل التواصل الاجتماعي ومشاريعها، ولهذا ضم إلى حكومته نخبة من أثرى أثرياء أمريكا، وهم رؤساء شركات التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، الذين يتحكمون في القوة الاقتصادية الأمريكية الهائلة.
أما النوع الثاني من الصراع، فهو مع الأقطاب الاقتصادية المنافسة، سواء كانت أوروبا، الصين، روسيا، أو حتى دول أخرى مثل مجموعة بريكس. ترامب واجه هذه الأقطاب من خلال محاربة الشركات التكنولوجية الصينية ومحاولات السيطرة عليها، مثل شركة تيك توك أو علي بابا، اللتين تُقدر قيمتهما السوقية بأكثر من تريليون دولار. هذه الجهود تشكل جزءًا من الصراع العالمي على الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية.
وفيما يتعلق بالصراعات الجغرافية، ودور الدولة العميقة الأمريكية العصرية، لا تزال مناطق مثل الشرق الأوسط تُدرج ضمن إستراتيجية المصالح الأمريكية، حيث تستمر كإمبراطورية عسكرية تخدم الأهداف الاقتصادية، لكن الدولة العصرية تعمل على جر بعض الدول إلى حاضنتها، كالسعودية كما نوهنا سابقا.
هذا يفسر استمرار دعم الإدارة الأمريكية الجديدة لسياسات الهيمنة على الشرق الأوسط، ورفضها السماح بعودة النفوذ الروسي، أو أدوات إيران، أو التمدد التركي في المنطقة، كقوى عسكرية تضر بمصالح الشركات في منطقة الشرق الأوسط الغنية والمتوقعة أن تعيد تركيبتها الجيوسياسية.
ويبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن للولايات المتحدة تحقيق التوازن بين مصالح القوى الداخلية وبينها والقوى العالمية، دون التضحية بمكانتها كقوة عظمى؟
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/1/2025