يبدو المشهد الحالي وكأنه إعادة تدوير للنماذج السلطوية السابقة في سوريا، بدءًا من انقلاب البعث عام 1963، الذي مهد الطريق لحكم الحزب الواحد وسيطرة الأجهزة الأمنية، وانتهاءً بسيطرة هيئة التحرير على دمشق وتشكيل حكومة انتقالية دون أي مسار ديمقراطي أو توافق وطني شامل.
———————————–
في خطوة مفاجئة، أعلنت هيئة التحرير، التي تسيطر على دمشق حاليًا، تعيين أحمد الشرع “الجولاني” رئيسًا للمرحلة الانتقالية في سوريا، وسط حضور لعدد من قادة الفصائل المسلحة، من بينهم حاتم أبو شقرا، متزعم “أحرار الشرقية”، ومحمد الجاسم “أبو عمشة”، متزعم “فرقة السلطان سليمان شاه” وفيهم عيسى متزعم فرقة سلطان مراد، المطلوبين للعدالة الدولية بإرتكابهم لجرائم الحرب بحق الكرد في شمال السوري، إلى جانب شخصيات أخرى ذات توجهات متشددة، بينما كان هناك غياب تام للمكونات السورية الأخرى، مثل الكُرد والدروز والعلويين والمسيحيين. هذا الإعلان، الذي اقتصر على المكون العربي السني والمجموعات التركمانية المسلحة، يثير تساؤلات جوهرية حول شرعية هذه المرحلة، وما إذا كانت تجسد انتصارًا حقيقيًا للشرعية، أم أنها مجرد إعادة إنتاج لأنظمة استبدادية سابقة؟.
انقلاب جديد في ثوب “ثوري”؟
يبدو المشهد الحالي وكأنه إعادة تدوير للنماذج السلطوية السابقة في سوريا، بدءًا من انقلاب البعث عام 1963، الذي مهد الطريق لحكم الحزب الواحد وسيطرة الأجهزة الأمنية، وانتهاءً بسيطرة هيئة التحرير على دمشق وتشكيل حكومة انتقالية دون أي مسار ديمقراطي أو توافق وطني شامل.
كما أن الاعتماد على “الشرعية الثورية” كبديل عن الانتخابات الحرة يذكرنا بحجج البعثيين بعد انقلابهم، حين اعتبروا استيلاءهم على السلطة “ضرورة وطنية” لإنقاذ البلاد من الفوضى. واليوم، يتكرر السيناريو ذاته، ولكن بواجهة إسلامية متشددة، حيث تم إقصاء المكونات السياسية والعسكرية الأخرى، لا سيما قوات سوريا الديمقراطية، والمكونات العرقية والدينية غير السنية، مما يعكس رغبة في احتكار القرار السياسي بدلاً من السعي إلى حل شامل ومتوازن.
احتكار السلطة على حساب التعددية الوطنية
إن استبعاد المكونات السورية الأخرى، خاصة الكرد، والدروز، والعلويين، والمسيحيين، من المشهد السياسي يقوض أي ادعاء بشرعية وطنية لهذه الحكومة الانتقالية. فهذا التوجه يعكس عقلية إقصائية مشابهة لأنظمة الاستبداد السابقة، حيث يتم رسم مستقبل سوريا وفق رؤية مكون واحد، بينما يتم تجاهل التعددية المجتمعية التي تمثل جوهر النسيج السوري.
وبدلاً من الدعوة إلى حوار شامل يضم كافة الأطراف السياسية والاجتماعية، يتم ترسيخ سلطة الأمر الواقع عبر فرض قيادة ذات طابع عسكري-ديني، تمامًا كما فعل حزب البعث في الماضي، حين احتكر السلطة بحجة حماية “الوحدة الوطنية والقومية العربية” بينما كان يعزز حكمًا ديكتاتوريًا لا يعترف بالآخر.
الشرعية الثورية: أداة تحكم أم وسيلة انتقالية؟
إن اللجوء إلى “الشرعية الثورية” كبديل عن الشرعية الديمقراطية يمثل نقطة جدلية كبرى في هذا التحول السياسي. إذ أن الثورات الحقيقية تهدف إلى بناء أنظمة ديمقراطية مستدامة، لا إلى إحلال استبداد جديد مكان استبداد قديم. ولكن في حالة أحمد الشرع وهيئة التحرير، يبدو أن الشرعية الثورية تحولت إلى وسيلة لترسيخ حكم فئة محددة بدلاً من أن تكون جسرًا نحو ديمقراطية فعلية.
إن أي مرحلة انتقالية لا تستند إلى شرعية شعبية حقيقية، عبر انتخابات حرة ونزيهة، تظل عرضة للانهيار والصراعات الداخلية. فالتاريخ السوري يشهد أن الأنظمة التي استندت إلى القوة والإقصاء، بدلًا من الشراكة الوطنية، انتهت إلى فشل ذريع، سواء في عهد البعث أو في الحكومات السابقة التي حكمت بالقوة العسكرية.
مستقبل غامض: نحو حكم طويل الأمد؟
رغم إعلان أن المرحلة الانتقالية ستستمر لمدة أربع سنوات، إلا أن غياب آليات واضحة للتغيير، وعدم وجود ضمانات لإجراء انتخابات حقيقية، يجعل هذه الفترة مرشحة للتمديد وربما للتحول إلى حكم طويل الأمد، كما حدث في حالات سابقة. فالنظم السلطوية غالبًا ما تبدأ بوصف نفسها بـ”المؤقتة”، لكنها تتحول إلى دائمة، مستغلة حالة عدم الاستقرار السياسي والفراغ الأمني لفرض سيطرتها المطلقة.
كما أن وجود شخصيات متهمة بجرائم وانتهاكات ضمن هذا النظام الجديد، مثل أبو شقرا وأبو عمشة، يثير مخاوف جدية حول إمكانية بناء دولة مؤسسات، حيث أن هؤلاء القادة العسكريين ليسوا رجال دولة، بل زعماء ميليشيات قد يكون لهم مصالح ضيقة تتعارض مع بناء سوريا ديمقراطية ومستقرة.
الخاتمة: اغتصاب الشرعية باسم الثورة؟
إن ما يحدث اليوم في دمشق ليس انتصارًا للشرعية بقدر ما هو إعادة إنتاج لنماذج الاستبداد السابقة، ولكن تحت مسمى جديد. فبدلاً من تحقيق العدالة والمشاركة الوطنية، نشهد استيلاءً على السلطة دون انتخابات، ودون تمثيل حقيقي لكل السوريين، مما يجعل هذه المرحلة الانتقالية عرضة للفشل أو للمزيد من الانقسامات والصراعات.
إذا كان هناك أمل في مستقبل سوريا، فلا بد من مسار ديمقراطي شامل، يضمن التمثيل العادل لكل المكونات، لا مجرد نقل السلطة من ديكتاتورية إلى أخرى. وإلا، فإن التاريخ سيعيد نفسه، ولكن بأسماء مختلفة.
– مدير شبكة الجيوستراتيجي للدراسات