في بداية الألفية الثالثة، كانت الأرض تتخبط في دوامة السياسة، وشعوبٌ تبحث عن هويتها، وقوى تبحث عن سبيل للحفاظ على وحدة أوطانها، وسط أمواجٍ من الصراع. وكان المصطلح الذي يطفو بين الحين والآخر على السطح: اللامركزية. هذا الكلمة السحرية التي بدت وكأنها مفتاح حل اللغز الكبير، لكنها في الحقيقة كانت تقبع داخل صندوق مليء بالغموض والتحديات.
في بلاد بعيدة، على ضفاف الفرات، كان الجدل يزداد حدة حول نوع اللامركزية التي يجب أن يتبناها النظام: هل هي اللامركزية السياسية أم اللامركزية الإدارية؟ لكل منها هويتها وأبعادها السياسية والفكرية، وكل منها يعكس رؤية مختلفة في إدارة الدول والشعوب.
اللامركزية السياسية: بين الفيدرالية وحلم الأمم
هناك حيث تتوحد الإرادات وتتشابك المصالح، نجد أن اللامركزية السياسية تحمل في طياتها شكلًا خاصًا من الحكم، ليس مجرد فوضى إدارية، بل هي دليل على فهم عميق لوحدة الدولة وتنوعها في آن واحد. في الدول الفيدرالية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، يكون لكل ولاية حرية ممارسة سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء على أرضها الخاصة، في ظل الوحدة الكبرى التي تجمعها تحت راية واحدة. وكأنها لوحات فنية تم رسمها بشكلٍ فني دقيق، كل لوحة تحمل تفاصيلها الخاصة ولكنها تتمازج مع باقي اللوحات لتشكيل صورة واحدة واضحة.
وفي مثل هذا النظام، لا يُمكن فهم “اللامركزية السياسية” إلا من خلال هذه الفكرة الفيدرالية التي تبني الدولة على أسس جغرافية، قومية، وسياسية معًا. هناك حيث لكل ولاية حقها في التشريع والمشاركة في إدارة شؤونها، ما عدا تلك القضايا المتعلقة بالأمن القومي، والدفاع، والتمثيل الدبلوماسي، وهي القضايا التي تتعلق بالوحدة الكبرى للأمة. هذه اللامركزية السياسية كانت ثمرة لرؤية فلسفية مفادها أن الحكومة لا تُمسك بكل خيوط النظام، بل تتيح للمكونات الفرعية أن تكون لها يد في إدارة شؤونها بما لا يتعارض مع المصالح الكبرى.
اللامركزية الإدارية: فخ الوعي المغلق
وفي الجانب الآخر، تنبثق اللامركزية الإدارية من قلب النظام البسيط. هي نظام إداري وظيفي بحت، لا يرتبط بالحقوق أو السياسة أو حتى بمفهوم وحدة الدولة. هي مجرد تقسيم إداري، كأنها تفصيل تنظيمي يهدف إلى تخفيف الأعباء عن المركز، ولكنها في النهاية لا تخرج عن كونها تفعيلًا لمهام إدارة بسيطة من دون أن تتعداها إلى أي شكل من أشكال الحكم.
كان ذلك هو الحال في النظام السوري الساقط، وفي النظام التركي الحالي، حيث يمكن تطبيق اللامركزية الإدارية في الدول البسيطة كما في حالة سوريا، وكذلك في الدول الاتحادية كما في ألمانيا. إنها مجرد أدوات إدارية لا تحمل من السياسة سوى الاسم، ولا من الحقوق سوى الإشارة. فالمسألة هنا لا تتعلق بصراعٍ على حكمٍ أو دستور، بل هي مجرد ترتيبات قانونية وجغرافية لا تأثير لها على جوهر النظام الحاكم.
الحقيقة المرة: جريمة المصطلح
لكن في ظلال هذا الجدل الكبير، كان هناك من يصر على استخدام مصطلح “اللامركزية” بشكلٍ خاطئ، وكأنها تُلقي بثقلها على قضية أكبر وأعقد من مجرد تقسيم السلطات. فقد وردت كلمة “اللامركزية” في بيان المجلس الوطني الكوردي، دون تحديد واضح هل هي تعني اللامركزية السياسية (أي الفيدرالية)، أم هي مجرد إشارة إلى اللامركزية الإدارية التي لا علاقة لها بالحقوق أو السياسة. وفي هذا الخلط، يكمن الخطر. فمن خلال حديثٍ عن “اللامركزية” دون تحديد نوعها، كان البعض يطعن في قضية الشعب الكوردي ويشوهها.
كانت هذه الكلمات بمثابة جريمة سياسية وحقوقية. جريمة لم تكن ناتجة عن رغبة في تدمير الوجود الكوردي، بل عن جهلٍ بسيط في فهم الجوهر. جريمة لا ترتكب ضد الأرض فحسب، بل ضد الحق والهوية التي يجب أن تُحتفظ بها الشعوب، وخصوصًا شعب كوردي يُطالب بحقوقه في تقرير المصير.
الفكر الكوردي: بين حق تقرير المصير واللامركزية السياسية
في لحظة تأمل، نجد أن الشعب الكوردي لا ينبغي أن يتوقف عند مفردات بسيطة كـ “اللامركزية” التي تحاول أن تحصره في زوايا ضيقة، بل يجب أن يرتقي إلى ما هو أسمى من ذلك. حق تقرير المصير يجب أن يكون له الأولوية في مطالبه، حيث لا يمكن للفكر الكوردي أن يظل محصورًا في حدود اللامركزية الإدارية. بل يجب أن يناضل من أجل اللامركزية السياسية، التي تجسد الفيدرالية، بما يتوافق مع أسس ومعايير القومية والسياسة والجغرافيا، التي تضمن للشعب الكوردي إدارة شؤون حياته وفقًا لحقوقه التي نص عليها القانون الدولي.
الختام: بين الوحدة والتنوع
وفي النهاية، إذا كانت اللامركزية السياسية تعني حكمًا محليًا في دولة اتحادية، فلا بد أن نعي أن المراحل التالية من تطور الفكر السياسي الكوردي يجب أن تنطوي على ذلك التمييز الواضح بين الإدارة المحلية والحكم المحلي. هذا التمييز الذي يجب أن يُفهم في سياق الأبعاد السياسية والدستورية، فلا ينجرف الشعب الكوردي وراء المصطلحات العابرة التي قد تلتبس مع الواقع.
وها هنا، تظل اللامركزية مفتاحًا لفهم أن الوحدة لا تعني القضاء على التنوع، بل هي صورة جديدة من الحكمة السياسية التي تُبنى على الاحترام المتبادل للمكونات التي تجعل الأمة غنية ومتنوعة في آن واحد.
بوتان زباري
السويد
07.02.2025