يُعتبر النظام الفيدرالي مطلبًا جوهريًا ليس فقط للشعب الكوردي، بل لكل المكونات السورية الساعية إلى الخلاص من هيمنة المركزية المطلقة، وبناء نظامٍ عادلٍ يضمن حقوق الجميع. ومع ذلك، جاء البيان الأخير للمجلس الوطني الكوردي ليضع علامة استفهامٍ كبرى حول موقفه، هل تخلى عن مطلب الفيدرالية بكل بساطةٍ؟ متبنّيًا خطابًا مائعًا يطالب بنظامٍ لا مركزي، دون توضيح آلياته أو حدوده، وفي الوقت نفسه يتحدث عن دولة المواطنة، وكأن هذين المفهومين لا يحملان في طياتهما تناقضًا جوهريًا.
ما يعزز الشكوك حول هذا التراجع المفاجئ هو أنه جاء بعد ضغوطٍ وإملاءاتٍ خارجية، خاصة من الجهات التي لا تزال تسعى لاحتواء الحراك الكوردي وتوظيفه لخدمة مصالحها الإقليمية، بدلًا من تمكينه ليكون قوةً فاعلةً في تقرير مصير المنطقة. هذه الإملاءات ليست جديدة، فقد شهدنا سابقًا محاولاتٍ مستمرةً من بعض الدول، وفي مقدمتها تركيا، لفرض أجندتها على المجلس، ومنعه من تبني أي موقفٍ يهدد مشاريعها التوسعية في الشمال السوري.
المفارقة الكبرى تكمن في أن المجلس الوطني الكوردي نفسه كان أحد أبرز المدافعين عن الفيدرالية كحلٍّ وحيدٍ يضمن حقوق الكورد في سوريا، بعكس الإدارة الذاتية والتي لها أيديولوجيتها الطوباوية من النظرة الكوردية في هذا المجال، بل كان يعتبرها حجر الأساس لأي نظامٍ ديمقراطيٍّ مستقبليٍّ. فكيف يمكن تفسير هذا التحول السريع من المطالبة بالفيدرالية إلى الاكتفاء بالمطالبة بنظامٍ لا مركزيٍّ غير محدد المعالم؟ هل هو تحوّلٌ تكتيكيٌّ، أم رضوخٌ لضغوطاتٍ خارجية، أم تخبطٌ سياسيٌّ ناجمٌ عن غياب رؤيةٍ واضحة؟
إن ما جرى ليس مجرد تغييرٍ في الصياغة، بل انتكاسةٌ سياسيةٌ خطيرة، تُهدد المكاسب التي ناضل الشعب الكوردي لعقودٍ من أجل تحقيقها، كما تمنح الأطراف التي تسعى لإنهاء أي شكلٍ من أشكال الاستقلال الكوردي في سوريا ورقةً إضافيةً للضغط والتلاعب بمصير المنطقة.
لا يمكن إنكار أن التخلي عن مطلب الفيدرالية، في ظل المخططات الجارية في سوريا، يخدم بالدرجة الأولى أعداء القضية الكوردية، وخاصة تركيا، التي ترى في أي كيانٍ كورديٍّ مستقلٍّ تهديدًا مباشرًا لمشروعها القومي. وهذا يفتح المجال للتساؤل: هل المجلس الوطني الكوردي يسير عن وعيٍ في هذا الاتجاه، أم أنه مجرد ضحيةٍ للعبةٍ سياسيةٍ أكبر منه؟
في ظل هذا الواقع، من الضروري أن يُقدم المجلس الوطني الكوردي توضيحًا صريحًا للشعب الكوردي، يكشف فيه الأسباب الحقيقية وراء هذا التنازل، ويجيب عن الأسئلة التي تُثار اليوم في الأوساط السياسية والشعبية. فالمطالب القومية ليست أوراقًا تفاوضيةً يمكن التراجع عنها في أي لحظة، بل هي مبادئٌ يجب أن تكون ثابتةً، وغير قابلةٍ للمساومة.
وإذا كان المجلس يرى أن المرحلة الحالية تتطلب تعديلًا في خطابه السياسي، فإن ذلك لا يمكن أن يكون على حساب الحقوق التاريخية للشعب الكوردي. فالفيدرالية لم تكن يومًا مجرد خيارٍ سياسيٍّ، بل حتميةٌ لضمان حقوق الكورد في سوريا، وأي تراجعٍ عنها يعني فقدان البوصلة السياسية، والوقوع في فخ الخطابات الفضفاضة التي لا تحمل أي مضمونٍ حقيقيٍّ.
إن من يؤمن بالقضية الكوردية وحقوق شعبه، لا يمكنه التخلي عن مشروعٍ استراتيجيٍّ بهذا الحجم خلال ساعاتٍ قليلة، ودون تبريراتٍ مقنعة. ومن هذا المنطلق، فإن الشفافية والمصارحة مع القاعدة الجماهيرية أمرٌ لا بد منه، وإلا فإن المجلس يغامر بفقدان ما تبقى من مصداقيته أمام الشارع الكوردي، الذي لم يعد يحتمل المزيد من التراجعات والانقسامات والمواقف المترددة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
5/2/2025م