الانسحاب الكوردي من الائتلاف: خطوة نحو الحوار الوطني أم انعطافة نحو الذات؟ – بوتان زيباري

في خضم التحولات الجيوسياسية التي تشهدها سوريا، يأتي انسحاب المجلس الوطني الكوردي من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ليطرح أسئلة عميقة حول مستقبل المكون الكوردي في سوريا، ودوره في تشكيل الدولة السورية الجديدة. هذه الخطوة، التي قد تبدو للبعض متأخرة، تحمل في طياتها دلالات سياسية وفلسفية تستحق التأمل والتحليل. فهي ليست مجرد قرار إداري، بل هي تعبير عن رحلة طويلة من النضال والبحث عن الهوية والحقوق في ظل نظام استبدادي طالما حاول طمس الخصوصيات الثقافية والسياسية للمكونات السورية المختلفة.

الانسحاب: بين التأخر والحكمة

لطالما كان المجلس الوطني الكوردي جزءًا من الائتلاف الوطني، مشاركًا في محطات نضالية عديدة، من هيئات التفاوض إلى اللجنة الدستورية والمؤتمرات الدولية. ومع ذلك، فإن المتغيرات الأخيرة على الساحة السورية، خاصة بعد انهيار نظام الأسد، فرضت واقعًا جديدًا يتطلب إعادة تقييم للتحالفات والاستراتيجيات. هنا، يبرز السؤال: هل كان انسحاب المجلس الوطني الكوردي متأخرًا؟ أم أنه جاء في توقيت مناسب لمرحلة جديدة تتطلب إعادة تعريف العلاقات بين المكونات السورية؟

بعض النقاد يرون أن الانسحاب كان يجب أن يحدث قبل ذلك، خاصة في ظل تراجع فعالية المجلس داخل الائتلاف. لكن آخرين يعتبرون أن التوقيت الحالي، الذي يشهد تحولات جذرية في بنية السلطة السورية، هو الأنسب لاتخاذ مثل هذه الخطوة. فالانسحاب لم يكن انقلابًا على الشركاء السابقين، بل كان إعلانًا واضحًا عن رغبة في المشاركة في بناء مستقبل سوريا بشكل مختلف، بعيدًا عن منطق المعارضة التقليدية.

نحو حوار وطني شامل

ما يميز هذا الانسحاب هو النبرة الإيجابية التي رافقت الإعلان عنه. فالمجلس الوطني الكوردي لم ينسحب تحت وطأة الخلافات أو الانتقادات، بل أعلن عن رغبته في العمل مع كل الوطنيين السوريين من أجل مستقبل أفضل. هذا التحول من منطق المعارضة إلى منطق الحوار يعكس نضجًا سياسيًا وفهمًا عميقًا لتعقيدات المرحلة. فسوريا اليوم ليست بحاجة إلى مزيد من الانقسامات، بل إلى جسور تواصل بين مكوناتها المختلفة.

في هذا السياق، يطالب المجلس الوطني الكوردي بالاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكوردي، ليس كخطوة انفصالية، بل كجزء من بناء دولة سورية جديدة تقوم على التعددية والعدالة. ومن بين هذه المطالب: رفع الحظر عن اللغة الكوردية، وإدراجها في المناهج التعليمية، وإعادة النظر في التقسيمات الإدارية التي طالما استُخدمت كأداة للاضطهاد. هذه المطالب ليست مجرد شعارات، بل هي تعبير عن رغبة حقيقية في المشاركة الفاعلة في بناء الوطن.

التحديات والفرص

لكن الطريق نحو تحقيق هذه المطالب ليس مفروشًا بالورود. فالمجلس الوطني الكوردي يواجه تحديات داخلية وخارجية. داخليًا، هناك تعددية في الأحزاب الكوردية، كل منها له رؤيته ومطالبه الخاصة. هذا التعدد، وإن كان يعكس غنى المشهد السياسي الكوردي، إلا أنه قد يشكل عائقًا أمام صياغة خطاب كوردي موحد. فكيف يمكن للمجلس أن يجمع بين هذه الأصوات المتباينة ويقدم مطالب واضحة ومقنعة؟

خارجيًا، هناك تحديات تتعلق بموقف الحكومة السورية الجديدة من المطالب الكوردية. فهل ستكون دمشق مستعدة للاعتراف بالخصوصية الكوردية ومنحها حقوقًا سياسية وثقافية؟ أم أن الأمر سيقتصر على خطوات رمزية تهدف إلى امتصاص الغضب دون إحداث تغييرات جذرية؟

الخريطة الجديدة للنفوذ

في ظل هذه التحولات، تبرز خريطة جديدة للنفوذ في سوريا، حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية. فتركيا، التي كانت تدعم الائتلاف الوطني، قد تفقد جزءًا من نفوذها مع انسحاب المجلس الوطني الكوردي. وفي المقابل، قد تتعزز مكانة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كقوة كوردية فاعلة على الأرض. لكن هذا التعزيز لن يكون ممكنًا دون توافق مع الحكومة السورية الجديدة، وهو ما يتطلب حوارًا جادًا وشفافًا.

نحو مستقبل مشترك

في النهاية، يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن للشعب الكوردي أن يجد مكانته في سوريا الجديدة؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب أكثر من مجرد خطوات سياسية. فهي تتطلب إعادة تعريف العلاقة بين الهوية الوطنية والهويات الفرعية، وبين المركز والأطراف. فسوريا ليست مجرد دولة، بل هي فسيفساء من الثقافات والتاريخيات المتشابكة. والاعتراف بهذا التنوع ليس ضعفًا، بل هو قوة تمكن سوريا من تجاوز ماضيها الدموي وبناء مستقبل أكثر إشراقًا.

الخاتمة: خطوة نحو الأمام

انسحاب المجلس الوطني الكوردي من الائتلاف الوطني ليس نهاية الطريق، بل هو بداية لمرحلة جديدة من الحوار والتفاهم. فسوريا، التي عانت من ويلات الحرب والاستبداد، تحتاج اليوم إلى كل أبنائها لبناء دولة تقوم على العدل والمساواة. والخطوة التي قام بها المجلس الوطني الكوردي قد تكون، إذا ما أحسن استغلالها، خطوة نحو تحقيق هذا الهدف. فهل ستكون دمشق على مستوى التحدي؟ وهل سيتمكن الكورد من صياغة خطاب موحد يعبر عن تطلعاتهم؟ هذه أسئلة ستجيب عنها الأيام القادمة، لكن المؤكد أن الطريق نحو السلام والاستقرار يبدأ بالحوار والاعتراف بالآخر.

بوتان زيباري

السويد

08.02.2025