بعد حرب إسقاط صدام حسين في العراق عام 2003 م ظهر تنافس تركي إيراني لبسط النفوذ بالمنطقة لأن صدام كان المانع الأكبر من التغلغل الإيراني والتركي على السواء في العراق وفي جميع دول المنطقة ، فظهر التنافس بين الدولتين في بادىء الأمر في العراق ثم أنتشر في أماكن أخرى ونفس هذا التنافس تأجج في الجمهوريات الإسلامية المنفصلة عن الإتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى وكذلك دخل هذا التنافس في داخل حركات التحرر الكوردية وفي إقليم كوردستان . هذا التنافس كان سياسياً وايدلوجياً بالدرجة الأولى ثم تحول إلى تنافس سياسي وإقتصادي ولم يرقى إلى مستوى النزاع العسكري ولكن خلال العقدين الأخيرين وبعد توسع النفوذ الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن استشاط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غضباً حين ظهر على شاشات التلفزة قبل حوالي ثمانية سنوات ليقول للشعب التركي بأن إيران تجاوزت على حقوق تركيا في المنطقة بأسم المذهب وهذا الشيء لن يمر مرور الكرام . تلك التصريحات كانت بمثابة تصعيد مستوى التنافس مع إيران إلى درجة أعلى ، ولكن المنعطف الأخطر الذي حوّل التنافس إلى مواجهة مصيرية بين تركيا وإيران هو قيام تركيا بدعم مباشر في إسقاط نظام بشار الأسد الحليف الأستراتيجي لإيران والسند الأقوى لنفوذ إيران في المنطقة فقد أحست إيران بألم الضربة التركية وسمتها بالطعنة من الخلف كما جاء على لسان المرشد الإيراني .. مع سقوط نظام بشار الأسد يكون النزاع التركي الإيراني قد خرج من الخفاء إلى العلن فأصبحت إيران أمام مواجهة مفتوحة مع تركيا تستخدم فيها كل الأوراق وقد تصبح إسرائيل في طي النسيان بالمرحلة المقبلة وقد يتركز الصراع في سوريا تحديداً الموقع الذي تجرعت فيها إيران مر الهزيمة وقد تمتد نيرانه إلى كوردستان . حالياً الأمور تسير لصالح تركيا أما إيران في حالة ضعف وتراجع ، ومن يدري فمن الممكن أن تخبأ إيران أوراق ضغط كثيرة ، فلو تبين أن إيران تعمل في المستقبل القريب على المهادنة والمساومة من خلال التنازلات للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والتقرب إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج فهذه كلها ستكون دلائل وأشارات على التفرغ الإيراني لمواجهة تركيا بينما تمتلك تركيا أوراق قوية ليست في المنطقة فحسب بل حتى في داخل إيران ، هناك أكثر من ثلاثين مليون مواطن إيراني من أصول تركمانية ويتحدثون التركية وهم يشكلون القوة الأساسية في تركيبة المجتمع الإيراني وخاصة في المحافظات التي تقع شمال وشمال غرب إيران وهؤلاء لهم ولاء قومي كبير للأمة التركمانية التي تعتبر نفسها تابعة للقومية التركية بالرغم من معتقدهم المذهبي المختلف عن تركيا . إذاً هو صراع سيتوسع ويمتد إلى مختلف المجالات والمناطق وقد تصل إلى أفغانستان وحتى دول الخليج . . ما يهمنا في هذا الصراع هو أن ساحات النزال ستكون خارج البلدين إيران وتركيا وهذا شيء مؤكد وكأنهم قد أتفقوا على ذلك مسبقاً مثلما حدث في الصراع الإيراني مع إسرائيل وكذلك أدوات الصراع ستكون من موارد وسكان دول المنطقة ، فطالما هو صراع غير مكلف لا بشرياً ولا مادياً ولا أمنياً لكلا الدولتين الكبيرتين إيران وتركيا فما المانع أن يستمر هذا الصراع لسنين طويلة وما المانع أن يستنزف هذا الصراع طاقات بلدان المنطقة . هناك حقيقة يجب الأعتراف بها مع جل أحترامي وتقديري لشعوب وقيادات دول المنطقة هو أن العقلية الإيرانية والعقلية التركية تكاد تكون مهيمنة على عقول الناس في المنطقة يتصرفون بها كيفما يشاءون ، طبعاً وسيلتهم لتحقيق أهدافهم دوماً يمر عبر الدين فكل طرف سواء أكان تركي أم إيراني يعتبر نفسه هو المالك الشرعي للدين وهو الممثل للدين الإسلامي ، مع العلم الدين الإسلامي هو دين عربي خرج من أرض الجزيرة العربية لا تركي ولا إيراني وهو ليس أصول للتملك لكن الذكاء والدهاء في استثمار الدين هو الذي جعل الكفة تميل لصالحهم ، الذكاء ليس في التركيبة العقلية لأن عقلية المواطن العراقي والسوري واللبناني وغيرهم أرقى بكثير عن عقلية المواطن التركي والإيراني لكن هؤلاء يتفننون بأستخدام الدين فهم يفهمون الدين بطريقة قومية أي أن الدين يجب أن يكون ذا منافع قومية لبلدانهم وقد أثبتوا تأريخياً إجادتهم لهذا الأستثمار بينما الدين عندنا بقي في أنفسنا قيمة روحية وأخلاقية وكل ظننا بالأتراك والإيرانيين كما نظن بأنفسنا ببراءة تشبه براءة الأطفال وهذا هو الفارق الذي جعل لهم اليد الطولى على شعوب المنطقة . ما يمتاز به الطرفان المتنازعان تركيا وإيران كل منهما يعرف نقاط ضعف الأخر ونقاط قوة الطرف الأخر فمن المستحيل أن تكون نزاعاتهما مباشرة بلا وسيط وأفضل الوسطاء ومرتهنيها متوفرون بكثرة في مناطق العراق وبلاد الشام ، فهنالك الالاف من الشباب المغفل له الإستعداد أن يدفع حياته ثمناً لهذه التحديات ويكون أداة لنزاعاتهما ، وهذا واقع حال موروث لمئات السنين وسيستمر الحال لسنين طويلة قادمة والخاسر هو المغفل الذي لا يتعظ أبداً ولم ولن يصحو من غفلته لأنه أدمن الغفلة .