إذا كان التنوع أحد سمات المجتمعات الإنسانية، فلماذا يصبح في بعض الدول مصدر قلق بدلاً من أن يكون عنصر قوة؟ لماذا يشعر البعض أن الاعتراف بثقافات متعددة داخل الدولة يهدد انسجامها بدلاً من أن يعززه؟ هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة عندما ننظر إلى الوضع في سوريا، حيث يتم التعامل مع القوميات غير العربية وكأنها مشكلة يجب حلها، لا حقيقة يجب الاعتراف بها. ورغم أن التنوع القومي واللغوي في سوريا هو أمر راسخ في تاريخها، فإن السياسات التي سادت خلال العقود الماضية عملت على إنكار هذا التنوع، وفرضت رؤية أحادية، جعلت الانتماء العربي معيارًا وحيدًا يبنى عليه كل شيء، بينما تم اعتبار غير العرب مجرد استثناءات تحتاج إلى تبرير وجودها.
في سوريا، العربي لا يحتاج إلى تقديم أي تفسير لانتمائه، فهو جزء من السياق الطبيعي الذي يتم من خلاله تعريف الدولة والمجتمع. أما الكوردي، والسرياني، والآشوري، وغيرهم، فعليهم دائمًا أن يبرروا أنفسهم، وأن يثبتوا أنهم ليسوا تهديدًا، وكأن وجودهم في حد ذاته مسألة تحتاج إلى نقاش. هذه المفارقة لم تأت من فراغ، بل هي نتاج عقود من الخطاب الرسمي الذي جعل العروبة الإطار الوحيد المقبول، واعتبر كل ما هو خارج هذا الإطار مجرد تفصيل جانبي يمكن تجاهله أو حتى إلغاؤه.
هذا النهج لم يكن مجرد خطاب، بل تجسد في سياسات ملموسة، من فرض اللغة العربية كلغة وحيدة في المؤسسات الرسمية والتعليم، إلى منع استخدام اللغات الأخرى في المجال العام، بل وحتى محاربة الأسماء غير العربية، وكأن التنوع اللغوي والثقافي خطر يجب التصدي له. وفي الوقت الذي يتم فيه التعامل مع الانتماء العربي على أنه أمر بديهي، يطلب من غير العرب أن يخفوا انتماءهم أو يتعاملوا معه بحذر، وإلا اعتبروا انفصاليين أو تهديدًا لوحدة البلاد.
لكن هل يمكن لدولة ما أن تكون قوية ومستقرة وهي تمارس مثل هذه السياسات الإقصائية؟ هل يمكن لمجتمع أن يكون متماسكًا بينما يشعر جزء منه أنه مضطر لإخفاء لغته أو التنازل عن تاريخه ليتم قبوله؟ الدول التي ازدهرت لم تفعل ذلك عبر فرض هوية واحدة على الجميع، بل عبر الاعتراف بأن التعددية ليست حالة طارئة، وإنما حقيقة أساسية. على العكس، فإن الدول التي حاولت قسر مكوناتها المختلفة على الذوبان في هوية واحدة انتهت إلى الانقسام والتفكك، لأن القهر لا يصنع الولاء، والإلغاء لا يؤدي إلى الوحدة، بل إلى العكس تمامًا.
المشكلة ليست فقط في التعامل مع المكونات غير العربية وكأنها استثناء، بل في جعل الاعتراف بها مسألة جدلية، وكأن الأمر محل نقاش، وليس حقًا طبيعيًا. فحين يصبح من الطبيعي أن يفرض على غير العرب أن يكونوا “عربًا” كي يتم قبولهم، بينما لا يطلب من العرب أي تعديل في هويتهم، فهذا يعني أن هناك خللًا عميقًا في الفهم السائد لمعنى العيش المشترك. لا يمكن لأي مجتمع أن يكون متوازنًا حين يشعر جزء من أفراده بأنهم مضطرون لإخفاء من هم حقًا، أو حين يكون عليهم أن يثبتوا بشكل مستمر أنهم ليسوا مشكلة يجب حلها.
ليس صحيحًا أن الاعتراف بالتعددية يعني الانقسام، بل على العكس، فالتاريخ أثبت أن الدول التي تحترم مكوناتها المختلفة هي الأكثر استقرارًا. أما الدول التي تحاول إنكار تنوعها، فهي التي تجد نفسها في صراعات لا تنتهي، لأن الإنكار لا يغير الواقع، بل يجعله أكثر تعقيدًا. سوريا ليست بلدًا عربيًا فقط، بل هي بلد يضم شعوبًا وثقافات متعددة، وليس من المنطقي أن يتم التعامل مع هذا التنوع وكأنه تهديد يجب التخلص منه.
إن المستقبل لا يمكن أن يبنى على أساس الإقصاء، بل على أساس القبول المتبادل. لا أحد يطلب من العرب أن يتخلوا عن عروبتهم، فلماذا يطلب من الكورد أن يتخلوا عن كونهم كوردًا؟ ولماذا ينظر إلى تمسكهم بلغتهم وثقافتهم على أنه مشكلة، بينما يعتبر تمسك العربي بهويته أمرًا طبيعيًا؟ هذه الأسئلة لا يمكن تجاهلها، لأنها تعكس حقيقة العلاقة المختلة التي تربط الدولة بمواطنيها غير العرب. الحل لا يكمن في إنكار المشكلة، بل في مواجهتها بشجاعة، والاعتراف بأن التعددية ليست أمرًا يمكن تجاهله أو تجاوزه، بل هي حقيقة أساسية لا يمكن القفز فوقها.
من يريد الاستقرار الحقيقي لا يمكنه أن يبنيه على سياسات الإلغاء والطمس، بل على سياسات الاعتراف والاحترام المتبادل. إن القبول بالتنوع ليس منّة من أحد، بل هو أساس أي مجتمع يريد أن يكون قويًا ومستدامًا. أما الاستمرار في النهج القائم على الإنكار، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات، لأن الناس لا يمكن أن يقبلوا بأن يتم اختزالهم في هوية ليست هويتهم، ولا أن يطلب منهم أن يكونوا غير ما هم عليه ليتم اعتبارهم جزءًا من سوريا.
السيد ماهر حسن
المحترم.
تحية.
“سوريا ليست دولة عربية ولا حكرًا على عرق واحد.” سوريا والعراق دولتان أكثريتهما عربية ومسلمة منذ فترة. ينبغي تجنب مثل هذه العبارات غير الدقيقة والتي تسيئ الى عدالة قضيتنا القومية الكردية. نقترح تسمية الدولة القادمة: جمهورية سوريا الشعبية على غرار جمهورية الصين الشعبية وغيرها.
محمد توفيق علي