ملحمة الصمود الكردي: فلسفة النضال بين مطرقة القمع وسندان الهوية – بوتان زيباري

في مسرح التاريخ، حيث تتشابك خيوط القدر مع أوتار الألم، يُعيد الزمن سرد فصولٍ من المعاناة والظلم، لتظل الهجمات البربرية على الأراضي الكردية مرآةً تعكس مآسي الشعوب التوّاقة للحرية. القذائف التي تدكُّ أرض الرقة وسدَّ تشرين وريف كوباني ليست سوى آياتٍ حية من قصةٍ نُسجت بحبر الدموع والمرارة، تُعيد إحياء معاناة أمةٍ حملت راية الصمود في وجه الطغيان.

لطالما كانت دماء الكرد حبرًا يُكتب به تاريخ المستعمرين؛ فمنذ أن وطئت خيول السلاجقة سهول ديار بكر، وحتى اليوم حيث تُحوَّل القرى إلى رماد، تبقى الذاكرة الكردية شاهدةً على سلسلةٍ لا تنتهي من الخيانات والمذابح. أليس في إقحام عشرات الآلاف من المرتزقة السوريين، من تركمان وعرب، في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إلا صدى لعقيدةٍ عثمانيةٍ قديمةٍ تستبدل الوجوه وتُكرر الأساليب؟ فكما استعان العثمانيون بالأكراد لقمع الثورات ثم انقلبوا عليهم بالسيف، ها هم أحفادهم يُحوّلون السوريين إلى أدواتٍ في آلة الحرب ذاتها، وكأنما التاريخ يُعيد نفسه بلا خجل.

الأضرار المالية التي تُخلّفها قذائف الاحتلال ليست سوى أرقامٍ تضيع بين تقارير جافة، لكنها في الحقيقة شاهدٌ على حرب إفقارٍ منهجيةٍ تُريد شلَّ إرادة الحياة في الوجدان الكردي. فمنذ قانون “تونجلي” الذي هدف إلى تهجير الكرد وتتريك أرضهم، وحتى تدمير البنى التحتية اليوم، تبقى الاستراتيجية واحدة: تحويل الوجود الكردي إلى شظايا تائهة في رياح النسيان. لكن الشعب الذي صاغ حضارة “ميتاني” و”الحوريين” قبل آلاف السنين، لا يمكن لقصفٍ أن يمحو جذوره الضاربة في أعماق التاريخ.

وإذا كانت ثورات الشيخ سعيد وإحسان نوري باشا قد دُفنت تحت رمال الخيانة والغدر، فإن أطفال كوباني اليوم يرسمون بأقدامهم الصغيرة خريطةً جديدةً للمقاومة، حيث كل حجرٍ منهارٍ يصير لبنةً في صرح الهوية. فالكردي، كالجبل، يُولد من رحم الكوارث صلبًا، ويصنع من دموعه أنهارًا تروي شجر الحرية. لقد علّمته قرون القمع أن “العالم ملك الشجاع”، وأن دماء الأجداد ليست ذكرى، بل وقودٌ لنهضة الأحفاد.

اليوم، بينما تُدوّي صفارات الإنذار في سماء الرقة، يُعلن الكرد مرةً أخرى أنهم ليسوا ضحايا، بل شهودٌ على إرادةٍ لا تنكسر. فمن إبادة “درسيم” إلى مجازر العصر الحديث، تبقى الحكاية ذاتها: شعبٌ يُصارع من أجل أن يُولد من جديد في عالمٍ يرفض أن يُفسح له مكانًا إلا بين أشلاء الموتى. لكن التاريخ، كالماء، لا يمكن احتجازه خلف سدود الطغاة إلى الأبد؛ فسيأتي يومٌ تُروى فيه الأرض بندى الحرية، وتُزهر فيه كردستان كاللوز في فصل الربيع، رغم كل محاولات التجريف.

إن هذه الرواية ليست مجرد سردٍ لأحداثٍ متداولة، بل هي دعوةٌ للتأمل في معاني الصمود والنضال، ولإعادة قراءة الماضي بما يكشف عن صراعاتٍ فلسفيةٍ بين الحق والباطل، بين الإرادة الحرة وأغلال الظلم. إنها قصةُ شعبٍ اختار أن لا يرضخ لسلطةٍ لا تعرف الرحمة، وقصةُ تاريخٍ لا ينساها العالم مهما بلغ من البأس والوحشية؛ فكل فجرٍ جديد يحمل في طياته وعدًا بأن تتبدد ظلال الغزو ويعلو صوت الحرية الذي طالما رافق خطى الكرامة.

بوتان زيباري

السويد

09.02.2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *