مدخل إلى الأزمة
بعد وصول هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد شرع) إلى دمشق وإعلان حكومة مؤقتة برئاسته، برزت العديد من المبادرات الهادفة إلى إيجاد حلول سياسية تخرج البلاد من حالة الانقسام والتشرذم بعد عقد من الحرب الأهلية المدمرة، لا سيما في ظل تعدد القوى العسكرية والإدارية وتضارب المصالح بين الفصائل المختلفة.
إحدى هذه المبادرات كانت الدعوة إلى مؤتمر الحوار الوطني، وهو مشروع يُفترض، من الناحية النظرية، أن يجمع كافة الأطراف السورية على طاولة تفاوض للوصول إلى تفاهمات تعكس التنوع السوري وتؤسس لحل مستدام. لكن الواقع كان مغايرًا تمامًا، حيث تم تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر بطريقة أثارت الكثير من الشكوك حول مدى جديته، خصوصًا مع استبعاد العديد من الشخصيات والفصائل الفاعلة على الأرض، مما عزز المخاوف من أن الهدف الحقيقي ليس تحقيق المصالحة الوطنية، بل فرض رؤية أحادية لا تمثل إلا تيارًا بعينه.
إضافة إلى ذلك، طُرحت تساؤلات حول مدى استعداد الهيئة لتقديم تنازلات حقيقية، خاصة مع استمرارها في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها بطريقة مركزية تفتقر إلى إشراك أطياف أوسع من المجتمع السوري.
في ظل هذه المعطيات، لا يمكن تسمية لجنة التحضير للمؤتمر الوطني السوري على إنها تمثل كافة الأطراف، وإنما هي لجنة تتبع لهيئة التحرير، وبذلك يطلق عليها التسمية الصحيحة ” لجنة حكومة هيئة التحرير للحوار الوطني السوري “.
لجنة إقصائية أم هيئة تمثل الجميع؟
تم تعيين أعضاء اللجنة التحضيرية من قبل أحمد الشرع، ولكن ما لفت الأنظار هو الطابع الأحادي لهذه التشكيلة، حيث ضمت شخصيات تنتمي إلى فكر معين دون إشراك أي من المكونات الأخرى كالكورد، والدروز، والعلويين، والمسيحيين، وحتى العرب السنة الذين يتبنون نهجًا علمانيًا غير مرتبط بالفكر الديني المتشدد. هذه التركيبة ولّدت استياءً واسعًا، ليس فقط بين الأطراف السورية التي تم استبعادها، بل حتى بين بعض التيارات المحسوبة على المعارضة التي رأت أن هذا التشكيل يعكس إقصاءً واضحًا ويتنافى مع مفهوم الحوار الوطني الحقيقي.
الأخطر من ذلك هو أن معظم الشخصيات التي تم اختيارها تنتمي إلى الفكر السلفي الجهادي أو إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهي تيارات تحمل إرثًا أيديولوجيًا متشددًا، مما يثير مخاوف عميقة حول طبيعة النقاشات التي ستجري في المؤتمر، ومدى إمكانية أن يؤدي إلى نتائج عادلة تعكس مصالح جميع السوريين.
إعادة إنتاج التطرف؟
إن تعيين 7 أعضاء من المنتمين إلى الفكر السلفي أو الإخواني لا يمكن أن يكون صدفة، بل يعكس نهجًا واضحًا يهدف إلى السيطرة على مخرجات الحوار الوطني وتوجيهها وفق أيديولوجية محددة. هذه العقلية لا تساهم في بناء تفاهمات بين الأطراف المختلفة، بل على العكس، تؤدي إلى تعميق الانقسامات وتعزيز المخاوف من إعادة إنتاج الفكر المتطرف الذي دفع سوريا إلى هذا الوضع الكارثي في المقام الأول.
إن أي عملية سياسية جادة تتطلب تمثيلًا متوازنًا لكافة المكونات، وليس هيمنة تيار معين على مسار الحوار، وإلا فإن النتيجة ستكون إعادة إنتاج الأزمة بدلًا من حلها. هذا ما يجعل البعض يتساءل: هل نحن أمام “لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني”، أم أننا أمام “جماعة تكفيرية ” تسعى لفرض رؤيتها بالقوة؟
غياب التعددية وأثره على مستقبل الحوار
إن استبعاد المكونات الكوردية، والعلوية، والمسيحية، والدروز، وحتى التيارات العربية العلمانية، يُظهر أن الهدف الحقيقي ليس بناء سوريا ديمقراطية تعددية، بل إعادة رسم المشهد السياسي بطريقة تُقصي كل من لا يتبنى الفكر السلفي أو الإسلامي السياسي. وهذا يشكل كارثة حقيقية، لأن أي حوار حقيقي يجب أن يستند إلى مبادئ التعددية والاعتراف بحقوق جميع المكونات.
إن التجربة أثبتت أن الفكر المتطرف، سواء كان إسلاميًا أو قوميًّا، لا يمكن أن يقود عملية سياسية بنّاءة، بل يؤدي في النهاية إلى تكريس حالة الاستقطاب، وهو ما يتناقض تمامًا مع مفهوم المصالحة الوطنية.
أي حوار دون إشراك ممثلي الكورد!!
لا يمكن لأي حوار وطني حقيقي أن ينجح دون إشراك جميع مكونات الشعب السوري، وفي مقدمتهم الكورد وقوات سوريا الديمقراطية، الذين لعبوا دورًا أساسيًا في محاربة الإرهاب وترسيخ الأمن والاستقرار في شمال وشرق سوريا. إن أي محاولة لاستبعادهم تعني تجاهل شريحة واسعة من المجتمع السوري، مما يقوض فرص الوصول إلى حل سياسي شامل ومستدام.
لقد أثبتت قوات سوريا الديمقراطية أنها قوة رئيسية في محاربة داعش وحماية وحدة الأراضي السورية، كما أن الكورد يشكلون جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي والتاريخي لسوريا، ولهم حقوق مشروعة يجب الاعتراف بها في أي تسوية سياسية عادلة.
إن الحوار الوطني، لكي يكون ناجحًا ومثمرًا، يجب أن يقوم على مبدأ الشمولية والاعتراف بحقوق جميع المكونات، بعيدًا عن الإقصاء والتهميش. فالمستقبل الديمقراطي لسوريا لا يمكن بناؤه إلا من خلال مشاركة حقيقية لجميع القوى الفاعلة، بمن فيهم الكورد وقوات سوريا الديمقراطية، في صياغة مستقبل البلاد وفق مبادئ العدل والمواطنة المتساوية.
هل يمكن إنقاذ الحوار الوطني؟
لكي يكون الحوار الوطني السوري جادًا وفعالًا، لا بد من إعادة النظر في تشكيل اللجنة التحضيرية، بحيث تضم شخصيات تعكس الطيف السوري الواسع، وليس فقط تيارًا واحدًا. كما يجب أن يكون هناك التزام واضح بالمبادئ الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والابتعاد عن الأيديولوجيات الإقصائية.
إذا استمرت العقلية الحالية في إدارة الحوار، فمن المرجح أن يفشل المؤتمر قبل أن يبدأ، وسيدخل السوريون في دوامة جديدة من النزاعات، ليس فقط بين الأطراف الرئيسية في سوريا، بل حتى داخل قوى المعارضة نفسها، التي ستجد نفسها أمام واقع تُفرض فيه رؤى متشددة لا تعكس مطالب الشعب السوري الحقيقية.
الخاتمة
إن تسمية اللجنة التحضيرية للحوار الوطني بهذا الشكل الإقصائي يجعلها أقرب إلى “عقلية الإستبداد والإنكار” منها إلى لجنة وطنية حقيقية. فبدلًا من أن تكون أداة لجمع السوريين، سوف تحول إلى أداة لفرض رؤية أيديولوجية معينة، مما يعطل أي أمل في تحقيق سلام مستدام. الحل الوحيد هو تبني نهج إشراك الجميع وفي مقدمتهم الكورد الذين يشكلون قوة عسكرية وسياسية كبيرة، وإلا فإن الحوار الوطني لن يكون سوى حلقة جديدة في مسلسل الصراعات التي أنهكت سوريا وأهلها.