عندما يكون التحضير لمؤتمر يُفترض أن يكون وطنيًا مطعونًا فيه منذ بداياته، بدءًا من تشكيل اللجنة المكلفة بالإعداد، مرورًا بانتماءاتها الأيديولوجية والسياسية، وصولًا إلى منهجيتها المشبوهة، فمن المستبعد أن يتمتع هذا المؤتمر بأي شرعية حقيقية أو مصداقية في تمثيل سوريا بجميع مكوناتها. فالتشكيلة الحالية للجنة التحضيرية تفتقر إلى الشفافية، وتعكس محاصصة مسبقة تهدف إلى تكريس هيمنة أطراف معينة على المشهد السياسي السوري، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام، التي أصبحت الفاعل الأبرز في الشمال السوري تحت الرعاية التركية.
إن هذا النهج الإقصائي، الذي يتم التأسيس له من خلال تغييب القوى الفاعلة خارج الإطار الذي ترسمه أنقرة، بدءً من الإدارة الذاتية، كهيئة سياسية – إدارية تمثل طيف واسع من الشعب السوري، إلى المجلس الوطني الكوردي الذي كان جزء مهم ضمن مكونات المعارضة السورية، إلى جانب تجاهل المكونات الأخرى مثل الدروز والعلويين والمسيحيين، يكشف أن الهدف من المؤتمر ليس بناء “سوريا للجميع“ كما يدّعي منظموه، بل ترسيخ مبدأ المنتصر في المعركة، الذي يرى أن النظام قد هُزم، وبالتالي فإن قوى الثورة والجهاد السياسي والعسكري هي صاحبة القرار في تحديد شكل سوريا القادمة. هذا التصور ليس فقط بعيدًا عن الواقعية، بل إنه يعمّق الشروخ بين المكونات، ويؤسس لنظام إقصائي لا يختلف كثيرًا عن النظام البائد الذي قامت الثورة لإسقاطه.
رغم إدراك الحراك الكوردي أن ما يجري ليس مجرد خلل تنظيمي أو سوء إدارة، بل هو عملية ممنهجة لإعادة إنتاج هيمنة القوى المتشددة في الشمال السوري، وبتوجيهات تركية واضحة، يستمر في التعبّير، وبأساليب متعددة، عن رغبته الصادقة بالمشاركة في بناء الوطن، وترسيخ سوريا كدولة لجميع مكوناتها، متجاوزين التهميش المتعمد الذي يُمارَس ضده. وانطلاقًا من هذا الموقف الوطني، صدرت بيانان يؤكدان هذه الرؤية؛ الأول من الإدارة الذاتية، حيث قدمت نصائح للحكومة الانتقالية بضرورة عدم حصر تشكيلها في مكون واحد، بل أن تكون ممثلة لكافة الأطياف السورية، كما طالبت بالنظام الفيدرالي والسلطة اللامركزية تعبيرًا عن التعددية والتنوع الذي يزخر به المجتمع السوري. أما البيان الثاني، فقد صدر عن المجلس الوطني الكوردي، مشددًا على الخلل الذي شاب تشكيل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، ومطالبًا، بروح وطنية مسؤولة، بتصحيح هذا الخلل، بما يضمن مشاركة جميع القوى والمكونات في صياغة مستقبل سوريا، بعيدًا عن الإقصاء والتهميش.
مع ذلك، وللأسف، النهج الذي تسلكه الحكومة الانتقالية ومنها عملية تشكيلها للجنة التحضيرية يجعل مستقبل سوريا غامضًا ومهددًا بمزيد من الانقسامات، فكيف يمكن بناء دولة ديمقراطية إذا كان المؤتمر المنوط به وضع أسس الحكم الجديد لا يعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوري؟ وكيف يمكن الحديث عن توافق وطني إذا كان مكون رئيسي كالمكون الكوردي مستبعدًا، رغم أنه يشكل نسبة كبيرة من السكان وله ثقله العسكري والسياسي والإداري؟ لا أتناول هنا المؤتمر من البعد القانوني، فهو من اختصاص ذوي الخبرة في هذا المجال، كما أنني لا أتطرق إلى الجوانب التنظيمية، فهي مسؤولية الذين يمتلكون خبرة في عقد مثل هذه المؤتمرات الضخمة، بل كيف يجب أن يشمل اللجنة التحضيرية والمؤتمر جميع المكونات السورية دون استثناء، وعلى رأسهم الكورد، باعتبارهم أحد الأطراف الفاعلة التي لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها في مستقبل سوريا.
لا يمكن قراءة تغييب الحراك الكوردي عن المؤتمر بمعزل عن السياسة الإقليمية، فهناك أطراف، وعلى رأسها تركيا، تبذل قصارى جهدها لعزل الكورد من أي عملية سياسية تؤسس لمستقبل سوريا. فالتذرع بأن المؤتمر يمثل “شخصيات” وليس “منظمات” هو مجرد خدعة سياسية تهدف إلى تفكيك الوجود السياسي الكوردي، وتجزئة تمثيله كي لا يكون له تأثير ككتلة متماسكة، خصوصًا في ظل وجود الإدارة الذاتية، التي أثبتت نفسها ككيان سياسي وعسكري قادر على إدارة المنطقة بفعالية.
تركيا لا تريد أن يكون للكورد أي دور سياسي مستقل في سوريا، لأنها ترى في ذلك خطرًا على أمنها القومي، وتخشى أن يشكل هذا سابقة قد تؤثر على كورد تركيا. لذلك، فإن هيئة تحرير الشام، التي باتت بمثابة أداة وظيفية لأنقرة في الشمال السوري، تعمل على تنفيذ هذه الأجندة بحذافيرها، سواء عبر تهميش الكورد، أو إضعاف الإدارة الذاتية وقوات قسد، أو محاولة شيطنة الحراك الكوردي دوليًا.
في ظل هذه المعطيات، من الضروري ألا يقبل الكورد بهذه اللعبة السياسية القذرة، وألا يركضوا خلف حكومة دمشق أو حكومة المعارضة أملاً في الاعتراف بهم. فعندما يتم استبعادهم عمدًا من لجان الإعداد، ولا يتم إشراك أي ممثل رسمي عن الحراك الكوردي في اللجنة التحضيرية، فهذا يعني بوضوح أن الهدف هو تهميشهم تمامًا وإبعادهم عن رسم ملامح سوريا المستقبل.
إن رد الفعل الكوردي يجب أن يكون حازمًا وحاسمًا، ولا يمكن أن يكون عبر البيانات والاستنكارات فحسب، بل عبر عقد مؤتمر كوردي موازٍ، يضم كل القوى الكوردية، بما في ذلك المجلس الوطني الكوردي وقوى الإدارة الذاتية، ليثبت للعالم أن هناك تمثيلًا سياسيًا حقيقيًا للكورد في سوريا.
كما يجب عدم الرضوخ لحكومة هيئة تحرير الشام، التي تسعى إلى فرض نفسها كحكومة انتقالية لسوريا، حتى يتم الاعتراف الكامل بالحراك الكوردي، ومشاركة الإدارة الذاتية كممثل شرعي في المؤتمر الوطني السوري. فلا يمكن القبول بحضور شخصيات كورديّة ضعيفة أو مهادنة، تدّعي تمثيل الكورد بينما هي في الحقيقة مجرد أدوات لتجميل الصورة الإقصائية للمؤتمر.
ِما يجري اليوم ليس مجرد تحضيرات لمؤتمر، بل هو معركة على مستقبل سوريا، بين مشروعين متناقضين تمامًا:
- مشروع وطني ديمقراطي تعددي، يعترف بحقوق جميع المكونات ويؤسس لدولة تحترم التعددية القومية والدينية، ويكون فيه للكورد مكانتهم المستحقة.
- مشروع إقصائي إسلاموي-قومي، يعمل على إعادة إنتاج ديكتاتورية جديدة بوجه آخر، عبر استبدال النظام العروبي الديكتاتوري بنظام ديني متشدد، لا يقل استبدادًا عن النظام السابق، لكنه بغطاء إسلامي وبهيمنة تركية.
على الكورد أن يدركوا، فيما إذا استمرت هذه المنهجية الخاطئة، وإطاعة الإملاءات الخارجية وبشكل خاص التركية، فأن التحديات المقبلة لا تقل خطورة عن التحديات السابقة، وأن الوقت قد حان لرسم استراتيجية واضحة لمواجهة التهميش، وعدم الرضوخ لأي مشروع لا يضمن حقوقهم السياسية والإدارية في سوريا المستقبل. فالمعادلة بسيطة: لا مساومة على الحقوق، ولا قبول بأي مؤتمر لا يكون للكورد فيه تمثيل فعليّ، ولا اعتراف بأي حكومة انتقالية لا تضمن مشاركة الإدارة الذاتية ككيان شرعي معترف به دوليًا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
13/2/2025م