في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها سوريا بعد سقوط النظام في 8 ديسمبر، اجتمعت قوى وشخصيات وطنية سورية في جنيف يومي السبت والأحد 15-16 من الشهر الحالي، بحضور أكثر من 400 مشارك من مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، إلى جانب ممثلين عن أحزاب أوروبية. جاء هذا اللقاء في وقت بالغ الحساسية، حيث تسود حالة من القلق حول مستقبل البلاد، في ظل تحديات ما بعد الاستبداد وسيناريوهات إعادة إنتاجه بأشكال جديدة.
كان الهدف الرئيسي للاجتماع هو رسم ملامح سوريا الجديدة على أسس ديمقراطية تعددية، بعيدة عن المركزية القسرية والاستئثار بالسلطة، وضمان الانتقال من نظام الاستبداد إلى دولة المواطنة الحقيقية، حيث يكون الجميع شركاء في القرار السياسي. ناقشنا الأوضاع السياسية والأمنية، ووقفنا عند معاناة السوريين اليومية، مؤكدين ضرورة توثيق الجرائم والانتهاكات لضمان عدم الإفلات من العقاب.
أهمية الاجتماع في توحيد الصفوف الوطنية
جاء هذا الاجتماع في لحظة حاسمة من تاريخ سوريا، حيث ناقشنا كيفية بناء الدولة السورية الحديثة، وتحقيق السلام، وترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية، بالإضافة إلى تشكيل جيش وطني يكون حاميًا للوطن، لا أداة قمع بيد السلطة. كان التركيز الأساسي على ضرورة التخلص من الأنظمة الاستبدادية بكل أشكالها، وعدم السماح بتكرار تجربة الحكم الفردي أو الديكتاتورية بأي صيغة كانت.
أحد أبرز المحاور التي تم التطرق إليها هو توثيق الجرائم والانتهاكات المرتكبة ضد مجموعات ذات خلفيات مذهبية مختلفة، مما يساهم في تقديم مرتكبي هذه الجرائم للعدالة مستقبلًا وضمان عدم تكرارها في سوريا الجديدة.
ما قلته في الاجتماع: دعوة لوطن يتسع للجميع
بصفتي أحد المشاركين في الاجتماع، ألقيت كلمة تناولت عدة محاور أساسية تتعلق بمستقبل سوريا. أكدتُ أن الثورة السورية لم تكن مجرد انتفاضة ضد النظام، بل كانت خطوة نحو تحقيق الحرية والديمقراطية. ورغم انهيار النظام السوري وهروب رأسه، فإن التحديات التي تلت ذلك أظهرت أن إسقاط النظام لم يكن الهدف النهائي، بل مجرد بداية لمرحلة جديدة تتطلب بناء نظام سياسي ديمقراطي يحقق تطلعات السوريين.
شددتُ على أن الثورة لم تكن لإسقاط دكتاتور واستبداله بآخر، بل كانت تهدف إلى بناء دولة حديثة قائمة على أسس ديمقراطية ومواطنة حقيقية. انتقدتُ بشدة الممارسات التي تلت سقوط النظام، مثل تعليق العمل بالدستور، وحل الجيش، وتشكيل حكومة لا تعبر عن إرادة الشعب، مما أدى إلى استبدال الاستبداد القديم بشكل جديد.
وأكدتُ أن سوريا ليست ملكًا لفصيل أو طائفة أو جماعة مسلحة، بل هي لجميع السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية. وأي محاولة لاحتكار القرار السياسي، سواء تحت غطاء الدين أو الثورة أو الأمن، مرفوضة تمامًا.
مداخلات وطنية ورسائل مؤثرة من قلب المعاناة
تميز الاجتماع بمداخلات قوية من شخصيات وطنية بارزة، كان في مقدمتهم الدكتور والمناضل الحقوقي هيثم مناع، الذي يُعد من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في سوريا، وصاحب مسيرة نضالية طويلة في مواجهة الاستبداد. حملت كلمته نبرة عميقة من الألم، حيث تحدث عن المأساة الإنسانية التي يعيشها السوريون في الداخل، وقال بعبارات تختزل حجم المعاناة:
“عندما لا نملك ما ننام عليه، عندما لا نملك ما نستدفئ به، عندما لا نملك ما نأكل، رغم الإغاثة المستعجلة التي حدثت لنا، ليس بإمكاننا مشاركتكم عبر النت.”
كانت كلماته صرخة موجعة تعكس الواقع المرير للمهجرين واللاجئين داخل البلاد، حيث البرد والجوع وانعدام الأمان، بينما يتصارع السياسيون على المناصب والنفوذ.
إلى جانب الدكتور هيثم مناع، كانت هناك مداخلات هامة من شخصيات وطنية سورية، منهم:
• الأستاذ بدر منصور، الذي تحدث عن ضرورة تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة كل من تلطخت أيديهم بدماء السوريين، بغض النظر عن الجهة التي ينتمون إليها.
• الأستاذ جوان يوسف، الذي شدد على أهمية المشاركة الوطنية في صنع القرار السياسي كضمانة لبناء دولة لا تعيد إنتاج الاستبداد.
• الأستاذ محي الدين، الذي تطرق إلى معاناة المعتقلين والمغيبين قسريًا، وضرورة كشف مصيرهم وإنصاف عائلاتهم وتحدث عن المجرمين الذين تلطخت ايديهم في القتل وتطرق الى قاتل السياسية الكوردية هفرين خلف المدعوا
*ابو حاتم شقرا
• الأستاذ موسى بصراوي، الذي تناول القضية الكوردية وملف المهجرين والنازحين، وأهمية إعادة بناء البنية التحتية لمناطقهم لتشجيعهم على العودة.
• الأستاذ قاسم الخطيب، الذي أكد أن سوريا المستقبل لا يمكن أن تُبنى بعقلية الإقصاء، داعيًا إلى حوار وطني شامل.
• الدكتور محمد الأحمد، الذي ركز على التحديات الاقتصادية التي تواجه البلاد، محذرًا من مخاطر الفوضى الاقتصادية بعد سقوط النظام.
• الأستاذ إبراهيم مسلم، الذي شدد على ضرورة إعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل يضمن استقلاليتها عن أي نفوذ سياسي أو عسكري.
• الحقوقية رشا الأحدب، التي تحدثت عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها مختلف الأطراف، وضرورة توثيقها لضمان عدم إفلات المجرمين من العقاب.
• الأستاذ باسل، الأستاذة منى، والأستاذ ناصر الغزالي، الذين أكدوا على أهمية الإعلام في كشف الحقائق، وعدم السماح بتزييف التاريخ السوري من قبل أي طرف كان.
اتفق الجميع على أن سقوط النظام لم يكن نهاية النضال، بل بداية مرحلة أكثر تعقيدًا تتطلب توحيد الصف الوطني، ووضع أسس متينة لدولة حديثة تضمن حقوق الجميع.
التوصيات النهائية: خارطة طريق لسوريا الجديدة
خرج الاجتماع بعدد من التوصيات المهمة التي تهدف إلى ضمان مستقبل سوريا كدولة ديمقراطية تعددية. ومن أبرز هذه التوصيات:
1. رفض أي شكل من أشكال الاستبداد، وعدم السماح بإعادة إنتاج الديكتاتورية بأي صيغة.
2. إطلاق حوار وطني شامل يشمل جميع القوى السياسية والاجتماعية دون إقصاء.
3. تشكيل لجنة مستقلة لمراقبة وتوثيق الانتهاكات التي حدثت خلال السنوات الماضية، لضمان العدالة والمحاسبة.
4. العمل على دستور جديد يعكس التنوع السوري ويحمي حقوق الجميع، ويؤسس لدولة حديثة قائمة على سيادة القانون.
5. تشكيل جيش وطني حقيقي لا يتبع لفصيل معين، بل يكون مسؤولًا عن حماية البلاد وليس تنفيذ أجندات سياسية ضيقة.
6. تبني نموذج لامركزي لإدارة الدولة يضمن مشاركة جميع المكونات السورية في الحكم، ويمنع عودة الاستبداد المركزي.
7. تعزيز قيم الديمقراطية والحرية والمواطنة عبر مؤسسات رسمية تضمن عدم تحول سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية أو الطائفية.
رسالة إلى السوريين
في ختام الاجتماع، شدد المشاركون جميعًا على أن سوريا المستقبل يجب أن تكون دولة تعددية ديمقراطية لا مركزية، يشارك فيها جميع السوريين في صناعة القرار، بعيدًا عن منطق التخوين والإقصاء والاستئثار بالسلطة.
إن سوريا اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن تسير في طريق العدالة والحرية، أو تعيد إنتاج الاستبداد في شكل جديد. نحن، كشعب سوري، لن نقبل أن تُسرق ثورتنا مرة أخرى، وسنواصل النضال حتى تتحقق العدالة والمواطنة الحقيقية. عاشت سوريا حرة، عاش شعبها العظيم، والنصر للحرية والكرامة.
أزاد خليل
كاتب وباحث سياسي