تجنب الفيليون التكلم بالكوردية يخفي رغبة باتجاه التعريب والتجرد من الهوية القومية- صباح دارا

 

– شباط 2025

المقدمة:

تُعد اللغة جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية لأي مجموعة بشرية، فهي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي مرآة تعكس التاريخ والانتماء والموروث الحضاري. ومع ذلك، يواجه الكورد الفيليون تحديات كبيرة في الحفاظ على لغتهم الأم. فقد أصبح من النادر اليوم أن تجد فيليًا في العراق يتحدث الكوردية بطلاقة أو يشعر بالراحة في استخدامها.

نبذة تاريخية:

في العصر العثماني، كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية السائدة في ولاياتها بضمنها ولايات البصرة وبغداد والموصل ([1])التي سميت فيما من قبل الإنكليز بدولة العراق. سكان هذه الولايات الثلاثة كانوا يتكلمون العربية والكوردية والتركية والفارسية والسريانية والاشورية والعبرية والافريقية والهندية و… أي شخص كان يرغب الترقي في عمله الرسمي او دراسته او رتبته العسكرية كان مجبورا السفر الي تركيا لإكمالها هناك أي ان يتقن اللغة التركية.

سنة 1923 تمكن الإنكليز بالقوة من دمج الولايات الثلاثة الانفة الذكر تحت دولة واحدة سميت بمملكة العراق وسلموا الحكم الصوري فيها بيد الشيوخ السعودية وسموهم ملوك وامراء. هذا الحدث لم يكن مقبولا من المكونات المشار اليها أعلاه وبالأخص الكورد الذين اضطروا للثورة على العمل العنصري الذي قام به الإنكليز وكان قائد هذه الثورة هو  الشيخ محمود الحفيد الذي نصب نفسه ملك على كوردستان اسوة بما عمله الإنكليز. ولولا تدخل الطائرات البريطانية لصالح بغداد لتمكن الكورد على فرض سيطرتهم على كوردستان وإعلانها دولة مستقلة لان حكام بغداد لم يكن لديهم الجيش ولا قوة عسكرية تضاهي قوة الكورد آنذاك.

منذ استقلال العراق ولحد اليوم حاولت وتحاول مختلف الحكومات والأحزاب والشخصيات السياسية والعسكرية التي تسنمت الحكم في بغداد الي اتباع سياسة القوة العسكرية والأمنية والاقتصادية لأضعاف الكورد واجبارهم على الانصهار ضمن اللغة والقومية العربية لهذا تم ارسال الجيش العراقي لإخماد تطلعات الكورد القومية من قبل جميع الحكومات التي تسلمت الحكم في بغداد خلال المائة عام المنصرمة وادت ذلك الي الكثير من الماسي والويلات والدمار والمذابح الجماعية والتهجير والتفقير والتخلف

بالنسبة للكورد الفيليين فانهم ينتمون الي الجزء الجنوبي من كوردستان الممتد من منطقة خانقين قصر شيرين والي الخليج. تم تقسيم هذه المنطقة اثناء تقسيم كوردستان لأول مرة سنة 1514 بعد معركة جالديران بين الصفويين والعثمانيين. لهذا فالكورد الفيليون موجودون على جانبي الحدود الجنوبية بين هاتين الامبراطوريتين وحاليا بين العراق وايران. أي ان فيليوا العراق ليسوا جميعا تبعية إيرانية، بل اغلبهم من السكان الأصليين لوادي الرافدين ومناطق سكناهم كانت تمتد بين نهر دجله والحدود الإيرانية من ديالى وحتى شط العرب. اما الفيليون الذين نعتوا بالتبعية والإيرانية فهؤلاء يشكلون جزء قليل من السكان الفيلي العام في وادي الرافدين.

استطيع ان الّخص القضية الفيلية في العراق بما يلي: انا شخصيا من مواليد و سكنة (عگد الاكراد) المحاذي لشارع الكفاح في بغداد. حين كنت كانت اللهجة الفيلية هي السائدة في هذه المنطقة والمناطق الفيلية المجاورة الي درجة ان العديد من العوائل العربية تعلمت النطق بها. حاليا لا يوجد الا العدد الضئيل من المتكلمي بهذه اللهجة في هذه المنطقة وفي عموم العراق. والمضحك أيضا ان العديد من الفيليين الموجودين في ايران وكذلك في دول المهجر علموا أطفالهم العربية بدل الكوردية.

بمعنى اخر ان القضية الفيلية ليست قضية تعويضات عن التسفير او ضحايا الانفال الفيلية وانما هي قضية عنصرية مطبقة ظمنيا بشكل رسمي وخلال الرأي العام العراقي الذي اصبح اليوم يعتبر هذه الشريحة “عجم ايرانيين”!

أسباب تفشي التعريب اللغوي والقومي للكورد الفيليين:

يعود أسباب الواقع المؤلم المتمثل بتجنب الفيليين التكلم بلغتهم الام إلى مجموعة من العوامل المعقدة التي تتداخل فيها الجوانب الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية. هذه الأسباب ساهمت بشكل جوهري في تفشي التعريب اللغوي والقومي داخل هذه الشريحة كما يمكن ادران ذلك من خلال القائمة المدرجة ادناه:

  1. وجود الرغبة في الاندماج في المجتمع العربي لتجنب التمييز أو المعاملة المختلفة نتيجة عدم اتقان العربية او التكلم بها بلهجة كوردية مثيرة للانتباه.
  2. الاعتقاد بأن إتقان اللغة العربية يفتح فرصًا أفضل في التعليم والعمل.
  3. الضغط الاجتماعي والسياسي: سياسات الدولة التي فرضت اللغة العربية وحيدة في المؤسسات التعليمية والحكومية (في الوسط والجنوب)، مما يؤدي إلى تراجع استخدام اللغات الأقلية.
  4. تعرض الكورد بشكل عام والفيليين بشكل خاص (نظرا لموقعهم الجغرافي)  للسخرية والنكات المهينة والاستصغار والتمييز بسبب لغتهم الأم ومذهبهم الشيعي واصول بعضهم الايرانية، مما يدفعهم لتجنب النطق باللغة الكوردية ويفرض عليهم شعور بالخجل من استخدامها. “في الصف الثاني الابتدائي واثناء الامتحان كان المعلم يتمشى بين الرحلات للمراقبة وشاهد اسمي على الرحلة (صباح حسين دارا)”فسألني انت “اوفيلي؟” كما يلفضها البغداديون , فقلت نعم وحينئذ طلب من جميع التلاميذ الانتباه واخذ يسرد علينا جميعا نكتة (وين اذانك ياكوردي).
  5. الزواج المختلط بين الفيليين والعرب والأقليات الأخرى يجبر الزوجين وكذلك الأطفال على التكلم بالعربية .
  6. الاعتقاد بأن اللغة العربية أكثر “تقدمًا” و “مكانة” من اللغة الكوردية.
  7. فشل الجيل الفيلي الاقدم في نقل ممارسة التكلم بلغة الام الي أبنائهم واحفادهم بسبب العوامل السابقة.
  8. الثقافة الشعبية والإعلام العراقي غالبًا ما يعززان صورة اللغة العربية كلغة حديثة أو “عصرية” مقارنة باللغة الكوردية على انها لغة “غير متحضرة” أو “بدائية” وغير مواكبة للزمن وعديدة الانقسامات وقليلة الكلمات، مما يدفع الفيليين على تجنب النطق بلغتهم تفاديا للإحراج أو النقد.
  9. عدم استعمال اللغة الكوردية في مدارس الوسط والجنوب ولا في المؤسسات الرسمية او أماكن العمل يعزز الشعور بأن هذه اللغة أقل قيمة أو غير معترف بها رسميًا.
  10. قد يواجه الأطفال والشباب الفيليين ضغوطا وتحرشات من زملائهم في المدارس والجامعات بسبب عدم اتقانهم اللغة العربية.
  11. قد يكون لدى بعض الأفراد الفيليين تجارب سابقة مؤلمة تتعلق باستخدام لغتهم الأم، مثل التعرض للتوبيخ أو التمييز او الانتقاد مثلا: في الصف الثالث الابتدائي حين طلب مني المعلم ان اقرأ الاعداد امام السبورة وحين وصلت الي الرقم 30 والأرقام بعدها قلت سلاسين واحد وسلاسين …المعلم اخذ بتقليد لهجتي امام التلاميذ والكل اصبح يضحك عليّ وصارت عبارة (واحد وسلاسين) كنيتي حتى انهيت دراستي الابتدائية.
  12. الرغبة في تقليد النماذج الناجحة: عندما يرى الشباب الفيليون أن الشخصيات الناجحة أو المشهورة (في الإعلام أو المجتمع) يتحدثون باللغة العربية، فذلك يجعلهم يميلون لتقليدهم لاكتساب نفس المكانة الاجتماعية أو النجاح.
  13. بعض العوائل الفيلية قد تضطر الي تشجيع اطفالها الي استعمال اللغة العربية كوسيلة للنجاح في دراستهم واعمالهم وحياتهم المستقبلية مما يؤدي بهم في النهاية الي ترك لغتهم الكوردية.
  14. الارتباط بالقوة والسلطة: ترتبط لغة الأغلبية العربية في كثير من الأحيان بالقوة السياسية أو الاقتصادية، مما يجعلها لغة النفوذ. هذا الارتباط يُشجع أفراد الأقليات على استخدامها للوصول إلى الفرص أو لتجنب الشعور بالدونية.
  15. المؤثرات التاريخية: عمليات التسفير الي ايران والمذبحة الجماعية التي صاحبتها في القرن العشرين تركت اثار أليمة عند الفيليين الذين نجوا من هذه العمليات. لهذا اضطروا الي الاستعراب الذاتي والتكلم بالعربية حتى داخل بيوتهم لتعليم الأطفال بالعربية وتجنيبهم التكلم بالكوردية كوسيلة للتغطية على هويتهم الكوردية امام السلطات العراقية كوسيلة لتجنب ما حصل من تسفيرات وقتل في الفترة السابقة.
  16. التكلم بالكوردية في وسط وجنوب العراق يعرضهم الي الاتهام بالعنصرية ورغبة الانفصال وتلصق بهم التهم الموجهة اعتياديا ضد الكورد في اقليم كوردستان كما يمكن ادراك ذلك في الحادثة التالية: “بعد ان قام شخص فيلي صاحب معمل صغير بمكالمة تليفونية بالكوردية قال له احد العمال “هاي عنصرية”.
  17. النكات التي كانت تحاك بشكل عنصري مبرمج ضد الكورد من قبل الناطقين بالعربية وخاصة في فترة حكم حزب البعث ادّت الي خلق حالة الشعور بالنقص عند الفيليين لان وجودهم في وسط وجنوب العراق جعلهم الهدف الامامي الرئيسي والاقرب لتلك النكات.
  18. في زمن البعث كان الخوف هو السبب الرئيسي لتجنب الفيليين النطق بلغتهم الام اما في العهد الشيعي فقد اصبح المذهب وانكار منظّريه للهوية القومية هو المشجع الأساسي لهم في نبذ لغتهم.
  19. أخيرا فان غياب وسيلة لكتابة اللهجة الفيلية وصعوبة تعلم الكتابة السورانية او الكرمانجية نظرا لتعقيداتها اللامنطقية خلق شللا لصيانة اللهجة الفيلية ومنعها من التطور.

الخاتمة:

  1. يشكل الوعي بالاسباب المعروضة أعلاه وادراك أهميتها الخطوة الأولى نحو إيجاد حلول تسهم في الحفاظ على اللهجة الفيلية وإحيائها بين الأجيال الجديدة. وسوف يعتمد صيانة هذه اللهجة على الإرادة الجماعية في استعادة الفخر بالهوية الثقافية والتصدي لظاهرة التعريب باساليب مدروسة ومؤثرة.
  2. اقل ما يمكن للفيليين عمله هو ان يعلموا أطفالهم الكوردية منذ الصغر وداخل البيت.
  3. ينبغي فتح مدارس محلية لتعليم اللهجة الفيلية. كذلك يمكن إعطاء دروس في هذا الموضوع على الانترنيت. لقد قدمت شخصيا 8 دروس على اليوتيوب وتوقفت عن ذلك بسبب قلة ردود الأفعال وكذلك انشغالي الشخصي في أمور أخرى.
  4. ان ضل ّ الفيليون لا اباليون حول مستقبلهم فانهم لا محالة سائرون نحو الزوال في بودقة الانصهار العربية.

[1][1] ولاية الموصول يعني شمال العراق الحالي لحد جبل حمرين.

3 Comments on “تجنب الفيليون التكلم بالكوردية يخفي رغبة باتجاه التعريب والتجرد من الهوية القومية- صباح دارا”

  1. تحية للكاتب..عندما توجد بين الاغلبية المحصلة تتعلم ا
    لغة الاكثرية بوسط وجنوب ..العربية..
    عشرات الملايين العرب والاكراد وغيرهم هاجروا لامريكا وأوروبا وكندا..وصلت أجيال لا تعرف لغة الام لابائهم..لاندماجهم بالمجتمع…فهذه حالة طبيعية..
    قريب لي ذهب لكوردستان اربيل..فورا قلت له تعلم الكردية…والح عليه بذلك..
    ولو ان شاء الله هاجر لاي بلد فورا اقول له تعلم لغة ذلك البلد..
    واندمج فيه….
    شيء طبيعي..
    ثانيا.. الفيلية..واندماجهم مع العرب الشيعة جاء ايضا انعكاس لحالة الياس من اندماجهن مع الاكراد بكوردستان ووضع عراقيل ضدهم..وشعورهم بالتهميش..بشكل او باخر…..
    التنابز بالالقاب يتعرض لها الكثير..وهي قمة عدم الاخلاق للفرد وعائلته وشريحة من المجتمع التي تتجاوب معهم..والتنابز بالالقاب يتعرض لها الكثير. بدوافع عدة اقلها الاسباب العنصرية..
    فمن يتنابز بالالقاب يعاني من عقدة النقص…

  2. الفيلية..بطون رخوة بالعراق وايران..وداخل المكون الكوردي بالعراق..
    فلم يندمجون مع بقية الاكثرية من الاكراد وكذلك الحركة القومية والاسلامية الكوردية بسبب هم شيعة وغالبية الكورد سنة..
    وتقديمهم المذهب على القومية والوطنية..جعلهم ينظر لهم خونة موالين لايران بالعراق..وفي ايران ينظر لهم بانهم مشكوك بولائهم..
    ثانيا..
    اللغة الفيلية يصعب على الفيلية التحدث باللهجات الاكثرية الكوردية بكوردستان العراق وكذلك ببقية مناطق الكورد بايران وتركيا وسوريا..

    الاكراد اكثريتهم سنة…وصعود التطرف المذهبي جعل عائق من عامة الاكراد من تقبل الفيلية بينهم..
    الفيلية اقلية بين الاكراد لذلك فضلوا معرفهم المتميز للحصول على مقاعد بالبرلمان ..لان بغير ذلك يقلعهم اقليم كوردستان الذي اصلا لا يمثل الفيلية الذين يعيشون اصلا خا؟ج الاقليم..ومندمجين بنفس الوقت مع الاكثرية العربية الشيعية بوسط وجنوب العراق ومنها بغداد

  3. كاك صباح دارا المحترم.
    تحية.
    للاطلاع:
    تجنبَ الفيليون التكلم بالكوردية لكي يخفي رغبة باتجاه التعريب والتجرد من الهوية القومية.
    تجنبُ الفيليين التكلم بالكوردية يخفي رغبة باتجاه التعريب والتجرد من الهوية القومية.
    ” اللغة…فهي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي مرآة تعكس التاريخ والانتماء والموروث الحضاري.”
    2. التعاريف
    1) الثقافة واللّغة: الثقافة هي مجموع الأجوبة للأسئلة والمشاكل التي تظهر في مجتمع ما والتي تتغلّف بغلاف لغة ذلك المجتمع (آرمسترونغ،1963). وبعبارة أخرى، اللّغة بمثابة المرآة التي تعكس ثقافة المجتمع المعني. هذا وقد أعجبني هذا التعريف بحيث استلهمت صياغته كمعادلة منطقية على غرار المعادلات الكيماوية.
    ﺙ ═ ﺝ (ﺱ + ﻢ ) ∑ . حيث: ث = الثقافة، ج = الأجوبة، س = الأسئلة، م = المشاكل، ل = اللّغة، ∑ = المجموع الكلّي.

    ل
    https://muhamadtawfiqali.academia.edu/ Muhamad Tawfiq Ali (FCIL. CL)
    محمد توفيق علي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *